مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

من بين الكتب الكثيرة التي طُرحت في ميدان الاستهداء بالقرآن والمباحث المتصلة به، يبرز هذا الكتاب كمعلم فارق من حيث المحتوى والمنهجية والرؤية. فبينما يميل كثيرون إلى إعادة إنتاج ما سبق من أطروحات حول هذا المفهوم أو ما يقاربه، يأتي هذا الكتاب مختلفًا، يحمل في طياته الجديد، ويستحق الوقوف عنده مطولًا. وهذه أولى سماته اللافتة: أنه لا يكرر بل يضيف ويؤسس لمسار نوعي. سأتناول في هذه المراجعة عدة نقاط بارزة تجعل هذا الكتاب جديراً بالقراءة وهذا المشروع بالمدارسة والعناية.

يظهر جليًا بين سطور الكتاب عمق معرفة الشيخ بدر آل مرعي واستغراقه في تراث السلف الأولين، ليس في عمومه فقط، بل حتى في دقائق هذا التراث وخفاياه والتي لا تُكتسب إلا من خلال معايشة طويلة، واطلاع مباشر على المخطوطات وتمحيص الأقوال وتوثيق النقول. وقد تجلى ذلك في تعامله النقدي الدقيق مع بعض الآراء وفي استخراجه للؤلؤ المكنون من بطون المصادر. وإلى جانب هذا الانغماس في تراث السلف، يبرز جانب آخر مهم، وهو الاستشهاد بالخلف من المتأخرين، مما يكشف عن ثقافة موسوعية وقراءة واعية عميقة، تعرف كيف تصل الحاضر بالماضي. هذا الجمع بين السلف والخلف، بين الأصالة والمعاصرة، يتجلى في قائمة المراجع التي تقارب الثلاثمئة وفي الهوامش الثرية، ما يعطي انطباعًا واضحًا عن اتساع أفق المؤلف وسعة اطلاعه.

ومن الملامح المميزة لهذا الكتاب: النفس التربوي الحاضر بقوة. فالمؤلف لم يكتب من برج عاجي، بل لابد أن هذا الكتاب كتب من واقع معاش، ومن تجربة حية في ميادين العمل والدعوة والتربية. فجاءت توجيهاته ناضجة ونصائحه عملية وكلماته متخثرة بالتجربة. وهذا أمر مهم؛ إذ إن الكتابة النافعة لا تأتي إلا إذا تواشج فيها الفكر مع العمل، والنظرية مع الواقع.

كما أن من أوجه التميز اللافتة في هذا الكتاب، قدرة المؤلف على التأسيس المصطلحي العميق. فقد بذل جهدًا كبيرًا في ضبط الحدود، وبيان المتشابهات والتفريق بين المفاهيم، وقد بيّن المؤلف التعريف الذي اعتمده لمفهوم الاستهداء بأنه:

"الانتفاع بالمعنى القرآني في إصلاح اللسان، وتجديد الإيمان، وإرشاد الإنسان."

وهذه المباحث، وإن بدت ثقيلة على القارئ العادي، إلا أنها ضرورية لمن أراد أن يبني مشروعًا متكاملًا. خصوصًا أن هذا الكتاب هو "طليعة" كما عبّر المؤلف لما سيأتي بعده من أعمال في ميدان الاستهداء بالقرآن، فمن المهم أن تتأسس المصطلحات وتُضبط المفاهيم في هذه المرحلة التمهيدية، ليسهل على القارئ لاحقًا أن يميز بين المعاني والمسارات التي يسلكها الكاتب.

وليس الجانب العلمي وحده ما يميز هذا العمل، بل ثمة نفس أدبي راقٍ ينساب بين السطور. فأسلوب الكاتب جميل، يحمل نَفَسًا أدبيًا نقيًا وعمقًا علميًا لافتًا، وروحًا إصلاحية حاضرة. وهذا المزج بين الجوانب الثلاث: جمال العبارة وعمق الفكرة وواقعية التوجه قلما يجتمع في كاتب واحد ولكنه اجتمع هنا بحرفية وأناقة.

ومن المباحث البديعة التي أبدع المؤلف في إدراجها وتناولها، مبحث نماذج الاستهداء الإصلاحي، حيث عرض لخمس شخصيات كان لها إسهامها الواضح في هذا الميدان:

  • الشيخ طاهر الجزائري، الذي رأى المؤلف أن معلم نبوغه هو تقريب الرشيد؛ إذ كان يقرب العلوم إلى طلابه بصورة متزنة، ناضجة. ولم يكن نبوغه في الجانب العلمي فحسب، بل كان يحمل روحًا إنسانية عالية وشعورًا عميقًا بآلام الناس. ومما نقله المؤلف في ذلك عن رحلته إلى القاهرة، حيث عُرضت عليه جبة جديدة وكانت دمشق آنذاك تعيش حالة حرب، فقال:

    «يا فلان، تريد مني اقتناء جبةٍ جديدة، وأهل الشام يموتون من الجوع.»

    أثرت بي هذه الكلمة، لاسيما وأنا أقرأها والحرب الشرسة على أهلنا في غزة في أوجها وبعض النخب أبعد ما يكونون عن مجرد بذل الشعور القلبي بالإحساس بإخوانه المسلمين المجاهدين والتورع عن التباهي بفضول الدنيا في ظل مآساتهم، عدا عن أن يبذلوا لهم كلمة أو فعل النصرة.  

  • كما تحدث المؤلف عن الشيخ المصلح عبد الحميد بن باديس، الذي وصفه بأنه "يدفن البذور"؛ ليعبر بذلك عن طبيعة المشروع الإصلاحي القرآني الذي لا يتعجل النتائج، بل يرسخ أدوات الخير دون انتظار ثمار عاجلة. وقد أجاد المؤلف في عرض واستقصاء مراحل حركته الإصلاحية، من عنايته بالتعليم والصحافة، التي مهدت الطريق لتأسيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر. التي لعبت دورا في مواجعة المستعمر وتحصين الأجيال وبعث الوعي فيها.

  • الإمام عبد الرحمن السعدي، الذي ميّزه المؤلف بكونه يملك طلابه الأدوات، وإن كان في النفس ما يرجّح أن نبوغه الحقيقي يكمن في كونه مربّيا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى وهذا ظاهر في حديث طلابه عنه ولين عريكته وسهولة طباعه، مع استعيابه للطلاب وتوجيههم والأخذ بأيديهم وقل أن نرى عالما مربياً وهو سمت نراه كذلك في تلميذه ابن عثيمين رحمهما الله.

  • الشيخ محمد عبد الله دراز، الذي وصف المؤلف مفتاح نبوغه بـالتأصيل القرآني، غير أن ما بدا لي أن مفتاح نبوغه الحقيقي قد يكون في قربه من الواقع والتصاقه بالناس وتفاعله مع قضاياهم. ومن الجوانب اللافتة كذلك ما نقله المؤلف عن سَمْت الشيخ وسجاياه الشخصية حيث وصفه بأنه كان لبق الحديث لين العريكة وفيًّا عند النوائب، شهمًا في الملمات، محبًّا لرفاقه، محبوبًا لدى كل من عرفه وفي كل ذلك ما حق للمصلحين والمربين اليوم أن يعنوا به وأن ينظروا فيه ملياً.

  • أما الشيخ الطاهر بن عاشور، فقد وصفه المؤلف بأن مفتاح نبوغه هو "حل المشكلات"، وهذا الذهن الحاد القادر على اكتشاف السؤال المشكل والجواب عنه هو بلا شك سمة عقل كبير. ودائمًا ما كنت أردد لمن حولي أن القدرة على طرح السؤال الصحيح في الموضع الصحيح هي مفتاح من مفاتيح العلم والفهم. وينقل المؤلف وصفًا دقيقًا له من أحد من عرفوه، إذ قال:

    "رأيت فيه شيخًا مهيبًا يمثل امتدادًا للسلف الصالح في سمته وقامته المديدة وذاكرته الحافظة وعقليته الشابة،ولسانه البليغ، وقلبه الممتلئ بمروءة العلماء."
    وكان كما وصفه المؤلف:

    "يخوض في كل شيء من المعارف ويفيض بيانه وتنهل أخلاقه وسماته بالعطاء".

وما يُحسب للمؤلف في هذا المبحث، ليس فقط حسن الاختيار، بل العمق في التحليل والقدرة على تلخيص المشروع الإصلاحي لكل شخصية وبيان معلم النبوغ فيها بطريقة تجمع بين الدقة والإبداع.

وفي ختام هذا المبحث الغني، أشار المؤلف إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أن هذه المفاتيح ليست حكرًا على أصحابها وليست كافية بمفردها، بل على المستهدي بالقرآن أن يسعى لامتلاك أكثر من مفتاح، بحسب طاقته ومواهبه وظروفه وبيئته، إذ إن الانغلاق على مفتاح واحد أو الإغراق فيه، قد يؤدي إلى نتائج سلبية لا تُحمد. وهذه لفتة دقيقة، تبرز البعد التربوي العميق في رؤية المؤلف.

ومن المعاني اللافتة التي يفيض بها هذا الكتاب، غنى الخطاب بمعنى الاستغناء بالقرآن الكريم، إذ يُقدَّم فيه القرآن كمورد شامل وكافٍ، تُبنى عليه الرؤية وتُستلهم منه المعاني ويُرجع إليه عند كل مفترق. يظهر من خلال النص أن القرآن ليس مجرد مرجع معرفي، بل باب عظيم للخير وشفاء وطمأنينة وغلبة للهموم والأحزان وأنه سبيل للرقي في مراتب الكمال والنضج الفكري والإصلاح العملي. هذا المعنى يتكرر في صفحات الكتاب بتنوعاته، فيجعل من الاستهداء بالقرآن تجربة حياة، لا مجرد إطار نظري أو دعوي.

ختامًا، لا يسعني إلا أن أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق المؤلف لإتمام هذا المشروع القرآني، وأن يجعل له فيه القبول والنفع، وأن يجزيه خير الجزاء على هذا الجهد الطيب الذي خدم به كتاب الله تعالى. وكما نبّه الكتاب إلى أن هذا الباب – باب الاستهداء بالقرآن – ليس حكرًا على المختصين في الدراسات القرآنية، بل هو مجال مفتوح لكل طلاب العلم، بكل تخصصاتهم، ولكل الدعاة والمربين والمصلحين. وهو من أبواب الخير التي قلّ من يتنبه إليها، مع ما فيها من بركة وأثر لو أُعطيت ما تستحقه من الوقت والتأمل. أسأل الله أن يجعل هذا الكتاب سببًا في إحياء هذا الباب في نفوسنا وأن يفتح لنا به أبواب الفهم والعمل وأن يبارك فيه وفي كل من سعى لنشر معاني القرآن وتفعيله في واقع الناس.

تعليقات

  1. هيثم المصري3 أغسطس 2025 في 10:34 ص

    بوركت بوركت

    ردحذف
  2. بوركتم على الطرح المميز في مراجعة كتاب " طليعة الاستهداء بالقرآن " وأما مؤلفه فهو الباحث الناقد أ/ بدر آل مرعي وفقه الله وسدده ، وفتح له مغاليق العلم والمعرفة والحكمة ، وثبتنا على صراطه المستقيم ، آمين .

    ردحذف
  3. تعبير بديع وأسلوب راااق، بوركت الكلمات وأصحابها، المؤلف والمراجع..نفعنا الله بأدب العلماء وطلابهم وجعلنا في زرتهم.. امين

    ردحذف
  4. الكبار-جزاهم الله عنا وعن دينه خيرا- يعلموننا التواصي بالحق ومنه هذا ما نقرأه الآن اسال الله تبارك وتعالى أن يفتح أبواب هذا التواصي على مستوى كل ميادين الأمة والله قدير..

    ردحذف
  5. إطلالة جميلة على مضامين هذا الكتاب وما حواه من مباحث مهمة تُعلمنا حقيقة الاستهداء بهذا الكتاب العظيم فجزى الله المؤلف والكاتب خيراً .

    ردحذف
  6. بورك في المؤلف والكاتب ونفعنا وإياهما بالكتاب العزيز.

    ردحذف
  7. ما أجمل أسلوبك يا أستاذ، أثناء قراءتي شعرت برغبتك في أن يقرأ الجميع لهذا الكاتب، والكتاب هذا بالتحديد.

    لم أكن أرغب في أن أُكمِلَ قراءة المقال لِكونه طويل، ولكن لم أجد نفسي إلى في أخر سطر!.
    سلمت يداك ونفع الله بك الأمة

    ردحذف
  8. ما أجمل أسلوبك يا أستاذ، أثناء قراءتي شعرت برغبتك في أن يقرأ الجميع لهذا الكاتب، والكتاب هذا بالتحديد.

    لم أكن أرغب في أن أُكمِلَ قراءة المقال لِكونه طويل، ولكن لم أجد نفسي إلا في أخر سطر!.
    سلمت يداك ونفع الله بك الأمة

    ردحذف
  9. قرأت الكتاب والحمد لله
    طبعا قلم ا. بدر آل مرعي بديع ورقراق وكأنه قلم نزلمن السماء والكتاب رائع وأذكر وأنه أقرأه قبل استشهادة بمن هم إهتموا بعلوم القرآن وأفنوا حياتهم في خدمته وقبل أن أقرأ الفهرس قلت يارب يكون فيهم مصري لأني مصرية فإذا أنا أجده د. محمد عبدالله دراز وهو من كان في خاطري قبلها بوقت قصير وتمنيت لو أقرأ كتابه النبأ العظيم فكاد قلبي أن يطير وبالفعل قرأت له النبأ العظيم بعد انتهاء قراءتي لكتاب الإستهداء بالقرآن

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب