عيدكم يستصرخكم…

بهجة العيد، سعادة العيد، شعيرة العيد. هذه هي معاني ومباني العيد، فليس للعيد قيمة بمحسوس من لبس وطعام وشكل وزينة، إذا ذهب ما يقوم في القلب من بهجة وسعادة، وشعيرة تعظم لأجل الله وحده. وأحسب أننا ضيعنا هذه المعاني أو الكثير منها. يمر العيد على كثير من الناس بأجواء كئيبة أقرب ما تكون إلى أجواء رجل عشريني محكوم عليه بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، بعدما ضيع مستقبله بما عملت يداه، فينعزل عن العالم وعن معايشة الناس؛ ليقضي وقته مفكراً بهمه وحزنه! 

إن الله شرع هذا العيد للمسلمين بدلاً عن أعياد الجاهلية وعباد الأوثان والأصنام، فإذا لم نقم بإحياء هذا العيد، فلا عجب أن نرى أبناء أمتنا متسولين على أبواب أعياد الجاهلية، يحتفلون بها، ويخوضون فيها، ويخرمون عقائدهم في سبيل إحياءها! 

يا كرام إن للنفس حاجات ورغبات، والشريعة لم تأتِ معارضة أو مخالفة لطبائع هذه النفس ورغباتها، ولكنها  وجهت هذه الرغبات ووضعتها في موضعها المناسب. ألم تر أن الله قد حرم الزنا وشدد في عقوبة فاعله وجعله من الكبائر ولكنه أباح النكاح ورغب فيه وجعله مخرجاً مشروعاً لمن اتقى الله؟ أيضاً، ألم تر أن الله قد حرم أكل الخنزير وشرب الخمر ولكنه قد أباح الطيبات ورغب بها؟ 

حين يستبين أحدنا هذه الحاجات النفسية الطبيعية للنفس، ويعلم أن الشريعة قد صرفتها بما يصلح الإنسان ويعود عليه بالنفع الدائم، لا اللذة المؤقتة العابرة، يعلم ضرورة إقامة شعائر الله والحرص عليها. حينها لا عجب ممن وقع في المحظور إذا ما استغنى عما أبدله الله به من خير وعافية. 

ألم تسمعوا قول الله عز وجل: ﴿ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب﴾ [الحج: ٣٢]، ومن تعظيم هذا العيد القيام بحقه، لا قضاءً لنهاره بالنوم، ولليله بالعزلة والبعد عن الناس! بل بصلة الارحام وإدخال السرور على الناس، والسعي في جعل هذا اليوم عيداً حقيقياً.

 حين تأملت ما سلف وتدبرت هذه الآية تذكرت سؤالاً وردني في رمضان يقال فيه: “هل العيد للجميع؟ أم لمن قدم و تعبد و قام الليالي وقرأ القرآن وتدبر آياته ؟” ولم أعرف مقصود السؤال، فظننت أن صاحب السؤال يسأل مستفتياً عن حكم شرعي مما يحتاج إلى علم وفقهٍ ومعرفة بالأدلة وطرق الاستدلال، وعلوم اللغة والقرآن والحديث والتفسير وأصولهن! فبادرت بوضع نصف العلم بين يديه، قائلاً: "لا أعلم" وهي نصف العلم، وليت قومي يرضون بهذا النصف! أما النصف الثاني فما أنا من أهله ولا لي به صلة، فإن كان ذاك محيطاً، فلا أظن أني أبلغ القطرة منه. 

عدت فيما بعد إلى نفسي مفكراً في السؤال، فقلت لربما أراد السائل أن يحثني على العمل والقيام والصيام بهذا السؤال. واطمئننت لهذا، ودعوت لصاحبه شكراً له على ما أثمر سؤاله، وإن كانت إصابته للهدف ما هي إلا "رمية من غير رامٍ". فشكر الله له على كل حال. 

أتذكر هذا المعنى وأربطه بهذه الآية، فأعلم يقينناً السبب خلف تقصير البعض في إقامة هذا العيد وتعظيمه، فلا عجب ممن قضى رمضان نوماً بالصباح وأكلاً في المساء! فلم يحصل له ما يعين على استشعار لذة العيد وبهجته. فهذا ما تغيّر عليه شيء حقيقي في شهر التغيير حتى يستشعر الفرق، إن الذي تغيّر ما هو إلا موعد نومه واستيقاظه! أما تقوى القلوب ومقاصد الصوم "لعلكم تتقون" فذهبت أدراج البطون! 

ولكن على هذا نقول لمن فاته ما فات -وأنا منهم-: انتهاء شهر الطاعات لا يعني انتهاء الطاعات، والتوبة تجب ما قبلها، فالتقصير يمكن تداركه ويمكن تعويضه، ولكن بشرط، وهو أن يبدأ أحدنا من هذه اللحظة ولا يؤخر ولا يسوف ثانية واحدة، فطول الأمل مفسد للإنسان ومعين له على أن يرتع في ما يغضب الرحمن، فبادر. 

أقيموا شعائر الله، أقيموا هذا العيد، اجعلوا فيه معنى وروحاً، ولا تدعوه يرحل عنكم وهو فارغ خاو... عسى الله أن يعمر قلوبكم بتقواه.

يا كرام هذا العيد هو ساحة للابتهاج والسرور، هو الميدان المناسب لنشر السعادة في النفوس، سعادة يجب أن تغمر الكبير قبل الصغير، هذا هو الوقت المناسب لإزالة الشحناء بين المتخاصمين، ولتصافي القلوب وتقريبها. 

وأنا هنا لا أتحدث عن حلال ولا حرام، فلا أقول يجب عليكم أن تصلوا أرحامكم، ولا أقول يحرم عليكم النوم في نهار العيد، ولا أقول يجب أن تدخلوا السرور على أطفالكم، ولا أقول يحرم عليكم ظلمهم بقتل روح العيد والطفولة في نفوسهم! فما أنا من أهل التحليل والتحريم. 

ولكني أستصرخكم نصرة للعيد الذي يستصرخ ويستغيث، نصرة للعيد الذي ضاعت معانيه، نصرة للعيد الذي كادت روحه أن تنطفئ.

أقيموا السعادة في النفوس، أقيموا لأهاليكم الفعاليات، بادروا وكونوا السبب في صناعة السعادة فيمن حولكم، لا تنتظروا الآخرين، وكونوا سباقين للخير، عمروا قلوبكم بتقوى الله، وعظموا شعائره. ♥️

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب