يوم التخرج



أحدّثكم اليوم عن يوم من أيام العمر القصير! نعم يا كرام، لا تعجبوا من كونه أياماً، ولا من كونه قصيراً، فالعمر ما هو إلا أيام معدودة، تُعدّ على الأصابع. ولتستبين هذا وتعيَ حقيقته انظر خلفك، وأخبرني كم سنة عشت؟ عشرين؟ أربعين؟ ستين؟ أخبرني كم يوماً تذكر من تلك السنين؟ كم يوماً تذكر من طفولتك؟ كم ساعة تذكر من حياتك المدرسية؟ كم موقفًا تذكر من حياتك الجامعية؟ أنا أزعم أن أحدنا لا يذكر إلا النزر اليسير من ذلك كله، قد يذكر البدايات، بمُرّها وحلوها، وقد يذكر النهايات سعيدها وتعيسها. وما بين ذلك فغالباً ما يضيع أدراج الرياح، يضيع بكل ما فيه، بلذاته وشهواته، وبغصّاته ومتاعبه.

أستذكر هذا المعنى الذي دائماً ما يغيب عنا نحن بنو آدم، على أنه حقيقة قطعية لا ينكرها منا عاقل. أستذكره على ما رأيت اليوم، في يوم تخرج من سبقوني سناً، وربما علماً -ولكني لا أرجح-، فالعلم يا كرام ثوب بهي يلبسه المرء منا فيكسو صاحبه جمالاً بروحه وسمته وذوقه، جمال يظهر على قسمات الروح، قبل قسمات الوجه، جمال يظهر في الفعل لا في الشكل، وما رأيت اليوم شيئاً من هذا.

فالمُتجمّل بالعلم لا يرضى بحفل صاخب في أوقات الأذان والصلاة، وصاحب الخلق لا يرضى باختلاط الطلاب بالطالبات، عدا عن تراقصهم سوياً في الساحات وعلى عيون الناس، صاحب العلم لا يرضى بتعالي ضحكات البنات وضياع الحياء من النفوس. وأنا هنا لا أتحدث عن أهل النوادي أو المراقص-أعاذنا الله وإياكم- ، بل أتحدث عن طلاب الجامعات، أتحدث عن واجهة المجتمع، وشبابه المتعلم ممّن يعوّل عليهم بإصلاح ما أفسده الدهر.

إن يوم التخرج يوم عظيم بلا شك، ففيه يجني المجد ثمرته، ويستشعر كل طالب نجاحه وتقدمه، وحُقّ له فيه أن يباهي الناس بتميزه وما جناه من العلم، فهو اليوم الذي يرى الوالدان فيه ثمرةَ الجهد والتربية التي دفعوها من أنفسهم وأرواحهم، أيليق بنا أن نريهم بدلاً من تلك الثمرة سوء الخلق وموت الحياء في قلوبنا؟ 

أماتت المروءة من الرجال؟ أم فُقد الحياء من قلوب النساء؟ أيكون هذا ثمرة العلم الذي جنيتموه خلال خمس سنوات؟ بئس الثمرة والله، وبئس العلم الذي اكتسبتموه إن كانت هذه نتائجه، ولا خير في نجاحٍ وعلمٍ تأتي من ورائه الجراءة على حدود الله، ومواقعة معاصيه.  

ولست وصياً عليك، إن ربي قد هداك السبيل إما شاكراً وإما كفورا، وما لي عليكم من وزر ولكن "معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون"، فاتقوا الله واجعلوا مخافته بين أعينكم قبل أن تردوا أيديكم أو تصموا قلوبكم عن الحق. 

أختم بما بدأت به، وأذكركم أن هذا العمر ما هو إلا أيام قليلة ستمضي ولن يبقى بعدها إلا شيء واحد، قد خُطّ في صحيفتي وصحيفتك، يبقى الثواب لمن صبر على ترك المعصية، ولزم طاعة الرحمن، ويبقى الإثم لمن تسوّل على أبواب الشهوات، وقدّم لذة عابرة، على حسرة دائمة، فلا نظرة إلى النساء ستبقى لذّاتها، ولا تبرّج بما حرّم الله سينفع في صحيفتك. والعاقل من قدّم الدائم على المؤقّت، ورضا الرحمن على هوى الإنسان، والكيّس من دان نفسه، ونأى بها عن مواضع الإثم والشبهات، وتذكروا أن من ترك شيئاً لله عوّضه الله خيراً، ومن ترك شيئاً لوجهه الكريم، فإن اللّه أكرم الأكرمين‏.‏

السابع من شوال لعام ١٤٤٣هـ. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب