الرحلة الأولى في مقبرة الكتب المنسية

سلسلة مقبرة الكتب المنسية

الرحلة الأولى في مقبرة الكتب المنسية!
"مراجعة رواية ظل الريح للكاتب الإسباني كارلوس رويث زافون"
بسم الله الرحمن الرحيم
تبدأ الرواية بمشهد يحبس الأنفاس ويهيئ الأذهان للدخول إلى جو الرواية وبيئتها وعالمها الخاص، عالم مقبرة الكتب المنسية. جو يكتنفه التشويق والإثارة. حيث يثير الكاتب في ذلك المشهد وخلال الصفحات المئة الأولى روح حب الكتب التي يتبناها القارئ ويؤمن بها، ليبني مع الكتاب الذي بين يديه علاقة حبٌ وتعلق، ولربما تكون تلك الاستثارة سبباً رئيساً في أن أحدنا يقع في شباك هذا الكتاب وعالمه. تأمل معي هذا النص الذي ورد في أولى الصفحات:
"لمع في رأسي أن كل غلاف يخفي وراءه عالمًا لانهاية له، عالمًا يحفز النفس على استكشافه بينما يهدر الناس في الخارج أوقاتهم بمتابعة مباريات كرة القدم، والمسلسلات على الراديو وينفقون المال على جهلهم ايضاً"
نص كهذا كفيل بأن يأخذ بيد القارئ ويعزله عن العالم من حوله، ويمكن للمتتبع أن يرصد الكثير من هذه النصوص المحركة لمشاعر القراء. ولم يقتصر في ذلك على تلك النصوص المباشرة، بل تميز أيضاً بوصفه للعالم بعين القارئ النهم المتيم بالقراءة والكتب. تأمل معي وصفه للجدار في مكتبة برسلوه، قائلا:
"وكانت الجدران، مطليئة برفوف مليئة بالكتب، على شكل كروي تقع في عرش مركزه طاولة قراءة وأريكتان لماريشال مبجّل"
"طغت لحظة الظلام. ثم أعقبها صفق الباب بهمجية كأن قبضة فولاذية تحاول اقتلاعه."
بينما كنت مستغرقاً في هذا المشهد، غارقا بين كلماته، وفرت لي الطبيعة فرصة استثنائية لأعيش أجواء المشهد. كنت في غرفتي التي يفصلها عن باب المنزل ممر وصالون ومطبخ، فإذا بريح العصر تهب من الغرب، فتدخل من نافذتي فتحمل الستائر لتغطيني، وأفزع خلال جزء من الثانية بصفق باب المنزل كأن قبضة فولاذية تحاول اقتلاعه! كانت مصادفة عجيبة، لن أنساها!
مشهد لقاء خوليان بصديقه ميغيل على أسوار قصر آلدايا، فجلوسهم سوياً واستحضارهم للذكريات بعد سنوات من الغياب، مليئة بالوفاء، مليئة بالصداقة، مشهد حرك فيني الكثير، تذكرت دناءة الحياة بدون من يجعلها أجمل، ولا أبلغ من التعبير عن هذا المعنى من بيت الشافعي: " سلام على الدنيا إن لم يكن بها*** صديق صدوق صادق الوعد منصفا".
على الصعيد الفكري الديني لم تأتِ الرواية بشيء جديد عن غيرها من الروايات الغربية، ففيها تسفيه واستهزاء بالمتدينين إطلاقاً، على الرغم من أن أغلب النقود الموجهة، موجهة في حقيقتها إلى المسيحية لا إلى كل الديانات، وهذا أكثر ما يستفز القارئ المسلم، فالمفكر أو الأديب الغربي مارس هنا الاستقراء الناقص، فبمجرد تبينه ضلالة الدين المسيحي وأنه دين متناقض خاسر، لم يتعب نفسه بالبحث عن الهدى في غيره من الديانات بل اختار الطريق الأسرع والأسهل، ألا وهو إطلاق حكم الضلال على كل الأديان.
تعرض الكتاب للمسلمين في موضع وحيد، مخبرا به عن أن المسلمين ينازعون على إثبات أن عيسى عليه السلام، صاحب بشرة سوداء، وكأنه من صميم عقيدتهم، وأنا كمسلم، أول مرة أسمع بهذا الاعتقاد الغريب المتأكد من عدم وروده في مصادر تشريعنا وعقيدتنا: القرآن السنة.
بهذه الأجواء العامة المليئة بتسفيه الدين. وكون البطل غير عابئ بمسألة التدين والنقاشات التي تدور من حوله فيها، وعده إياها من التفاهات التي لا يلتفت إليها عدا عن إظهار (ضلالها)، وصديق مقرب للبطل كاره لتخلف المتدينين، وتصوير الرواية لهم بالخسة والدناءة، فيمكن استبيان كون الكتاب داعٍ للإلحاد، ولا مانع عندي من أن يدعوا كل ملأ إلى ملتهم، ولكني أكشف هنا عن الفقر المعرفي الذي يثبت فيه هؤلاء الملأ ملتهم وخلوها من الموضوعية. وأخشى ما أخشى ألا يستبين القارئ المسلم هذا الخواء المعرفي، الغير الموضوعي، ويغرق في سطوة الاستهزاء والسخرية، فيتسرب لعقله الباطن بعضاً من ذلك الصديد، فيتطبع قلبه مع الكفر، فتزول بشاعته، فيهون عليه. وتأمل قول أحمد بن القاسم الطوسي: كان أحمد بن حنبل إذا نظر إلى نصراني غمض عينيه فقيل له في ذلك، فقال: "لا أقدر أنظر إلى من افترى على الله وكذب عليه". وقارن هذا مع حالنا باستساغة التعبيرات الكفرية المليئة بالروايات هنا وهناك.
وعلى الرغم من هذا كله، فيمكن الكشف عن الخواء المعرفي الذي يسيطر على الفكرة الإلحادية، وعدم رسوخها في قلوب أتباعها، من بين سطور الكتاب. تأمل مثلا مشهد والد دانيال حين وقع دانيال بمصيبة، فقال الكتاب عنه: "يصلي لله الذي لم يكن يؤمن به" فمادام لا يؤمن به فلماذا يصلي له؟ هذا ما لا يمكن للملحد الاعتراف به، أن التدين فطري، وأن الإنسان لا يمكن أن يهنأ بحياة، بلا إله حكيم عليم قدير. وقد أخبر الله عز وجل عن هذا المشهد، فتأمل قول الحق سبحانه وتعالى:﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور ﴾[لقمان: ٣٢].
وتأمل معي هذه المفارقة: حين نجا دانيال في هذا الموقف لم يكن هذا الموقف كافياً ليعود إليه فيستدل به على وجود الإله وقدرته، في حين أنه في موضع سبق، حين لم يستجب الإله لدعوات فورتوني "المتضرعة" (حسب تعبيره)، لم يأل جهدا في استدلاله بهذا على عدم وجود الإله، وسخافة اعتقاد المتدينين به.
فصل نوريا مونفورت-ذاكرة الأطياف، فصل أثر بي صدقاً، وجعلني أغرق في حزن، وبؤس كبير. الفصل حوى: شلال من الأحزان، شلال من الجروح، شلال من الأخطاء، هنا –وفي كل الكتاب-أبصرت عظم شريعتنا في تسطيرها لحدود العلاقات، وتحييدها عن أن تكون مجرد سلوك شهواني عابر، الإسلام أسس لهذا قواعد وكفل حقوق الطرفان، وجعل لكلاهما من الضمانات ما يحميه من الآخر إن طغى وحاد عن الصواب. تقولون: حلقت بعيداً عن الكتاب أقول: عرفت الشيء بضده، ولولا الظلام لما عرفت النور، ولولا قبح الضلال لما أبصرت جمال الحق. ختمت الفصل بهذا البيت الذي صورني وتحدث بلساني، وبهذه الدعوة التي أسأل الله أن يستجيبها:
![]() |
| الصورة الأولى |
![]() |
| الصورة الثانية: |
"إذ كان يحب جميع أنواع الحشرات، ويعشق تصرفاتها المدروسة وقوتها وقدرتها المنظمة. كائنات لا تعرف الكسل أو التمرد أو المثلية الجنسية ولا حتى الانقراض. لكنه كان يفضل فصيلة العنكبيات لقدرتها على حياكة المصائد التي تنتظر فيها الفرائس بصبر جميل، فتنتهي وسط الشباك بسبب الغباوة أو الشرود".
وهنا مفارقة عجيبة، فهو عندما تحدث عن حب فوميرو للحشرات لأسوء ما فيها من الصفات، كالتربص والدناءة والاعتداء وجعل بين تلك الصفات القبيحة أنها غير مثلية. نسي أن في كونها غير مثلية دليل على أن المثلية بعداً عن الفطرة التي فطر الله عليها الخلق. وتأمل كيف صور بطل القصة على أنه محب لجاره الساعاتي المثلي، ومتقبل له، وأنه رجل طيب لا يمكن لنا أن ننكر عليه انحرافه، كل هذا تطبيع للمثلية وتشريع لها، زوفيه من الحياد والانتكاس عن الفطرة الإنسانية ما فيه. عدا عن كونه مخالف مخالفة صارخة لشريعتنا الإسلامية.
ولا ننسى أن أحداث الكتاب تدور في أول ستة وستين سنة من القرن العشرين وفي هذا إيهام للقارئ بأن المثلية قديمة قدم تلك الأيام، وتطبيع لها عن طريق الاستشهاد الزمني بوجودها، وهذا لا يثبت، بل يثبت استبشاع المجتمعات لها في ذلك الزمن، ولو ثبت وجودها فهو ليس دليلاً على تشريعها اليوم، ولكن الاشكال الأكبر هنا هو تطبيعها لدى القارئ.
ختاماُ: لم أتعرض لكل الأفكار في الراوية فليس هذا هو المقصود، لكن المقصود بيان شيء منها ومن ضلالها؛ ليعي القارئ أن هناك مفاهيم وأفكار يحاول الكاتب تسريبها، فلابد لها من أن يكون أوعى، وربما يكون ما خفي وما لم أتعرض له أعظم.
أتمنى أن يأتي زمن نرى فيه شباب واعيين، يتناولون هذه الأدبيات وغيرها بالنقد لبيان ضلالها وخطورتها، بحيث يعون أن الروايات ليست مجرد مواد مقصدها التسلية والاستمتاع بحبكة تحل في آخر الصفحات، بل هناك كاتب يحاول أن يسرب لعقل القارئ قناعات ومفاهيم وأفكار. وعدم استيعاب أفكار الرواية أول خطوة في استغفال القارئ وزرع ما يريده الكاتب فيه ولو خالف مبادئه. ومن نجا من الأول، فكثيراُ لا ينجو من الثانية، وهي أن يعزل الرواية عن سياقها على أرض الواقع وأن يعتبرها مجرد خيال لا ينبغي الاهتمام به عدا عن نقده بعيون إسلامية.
أعتذر على الإطالة وأشكرك قارئي العزيز على الوصول إلى هذا السطر.
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


تعليقات
إرسال تعليق