هل الاستغراق في عالم القراءة سيجعل مني شخصاً منفصلاً عن الواقع؟

 سُئلت عن رأيي في فكرة يطرحها أحد الأغرار في فضاء العالم الرقمي لاقت رواجاً وانتشرت بين الناس. مفادها: أن القراءة قوقعة آسرة، تُخرجك من الحياة الواقعية إلى الخيال البعيد عن العالم الحقيقي. فهي تسرق وقتك وحياتك ولا تعود عليك بالنفع. بل تجعل منك شخصية مأسورة بين صفحات الكتب. 

وما أنا من أهل الثقافة ولا العلم لأستحقّ أن أُسأل عنهما أو أُستشار، ولكن يُحرجني الأصدقاء بحسن ظنّهم وسعيهم إلى سماع رأيي السقيم، وكلماتي الهزيلة. فجزاهم الله خيراً على حسن ظنهم، وزادنا الله علماً وعملاً.

كتبت: 

هل الاستغراق في عالم القراءة سيجعل مني شخصاً متقوقعاً، منفصلاً عن الواقع؟ 

لا قطعًا، ما دمت تقرأ بالشكل الصحيح. 

قراءة الكتب تعني أن تقرأ أفكاراً لأشخاص يعيشون في العالم الذي تعيش فيه. فليس الكاتب مخلوقاً فضائيّاً تربّى في المريخ، ثم صدّر لنا كتبه وأفكاره. وعلى الرغم من هذا وبطبيعة الحال فإنّنا نُقرّ أنّ من الكُتاب من تكون أفكاره أقرب إلى الواقع وأكثر تماساً به، ومنهم من يكون سارحاً في خيالاته وعوالمه البعيدة. ولكنّ هذا لا يعني أنّه يجوز لأحدٍ أن يتهم الكتب بأنها تعزل عن الحياة الواقعية. فحتى تلك الكتب الخيالية لابد لها من انعاكسات على الواقع، ولا يعِي تلك الانعكاسات إلّا النبيه ولا يبصرُها إلّا فطن، وأنّى لنا به! 

وعلى هذا نقول إن نوعية الكتب والكُتاب تلعب دوراً مهماً في انفصالك عن الواقع من عدمه. وسأضرب مثالين لا يُتصوّر بهما أن المرء ينعزل عن الواقع إثر استغراقه في عالم القراءة:

- قارئ يقرأ في الفقه. يمر على العبادات التي هي جزء لا يتجزأ من كل أيامه، فما من عبد يأتي عليه يوم بلا صلاة، وما من مسلم تمر عليه سنة بلا صوم، ولربما كان فيها زكاة وحج وعمرة. فهو معايشٌ لما يقرأ حتماً. ثم هو يمر على المعاملات التي هي جزء رئيس من نشاطه التجاري من بيع وشراء وإجارة ودين ورهن أو كسب. ثم يمر على فقه الأسرة الذي يعيشه مع زوجه وأهله وعائلته في كل يوم وكل لحظة. فكيف لنا أن نجعل هذا القارئ معزولاً عن واقعه بسبب ما يقرأ؟

- أو يكون قارئاً يقرأ في التراجم والسير والأدب. يتعرف على حيوات الآخرين ومشاعرهم، يكتسب من خبراتهم ومعارفهم، يتعلم من مواقفهم ومعايشهم، يستأنس بأحاديثهم التي لا تبتعد عن أحاديثه في مجلسه وبين أهله وناسه. فكيف لهذا القارئ أن ينفصل عن الواقع وهو يقرأ الواقع؟ 

وشتان بين هذا القارئ والذي قبله وبين من لا يقرأ أصلاً فلا يعرف من نور العلم قبساً أو من تجارب الغير عوناً؛ فيمشي مُكبّاً على وجهه، حيران! 

ولا أتصور أنّ شخصاً انفصل عن الواقع بسبب قراءاته إلّا أن يكون ما يقرؤه ذلك البليد رديئاً. فكثيرة هي الكتب الغبية التي لا تزيد المرء إلا تعقيداً وبعداً عن الحياة، والأنكى أن الكثير من تلك الكتب يلقى رواجاً على رفوف المكاتب، لا لما حوته من علم ومعرفة، بل لرداءة الأذواق والله المستعان. والطيور على أشكالها تقع، فرديء الكتب يقع عليه رديء القراء. وأسفي شديد على من ضاعت عليه لذة القراءة والعلم لأنه كان ضحية لاختيارات السوق الضعيفة. ولهذا قيدت إجابتي الأولى، بـ"ما دمت تقرأ بالشكل الصحيح". أما أن يأتي أحدهم فيورد الإبل إلى الماء على غير طريقتها، ثم يتهم الإبل وينسى حمقه وضعف نظره فهذا مما لا يقبل.

و من رحمة الله بالمرء أن يكون واعياً فيُقدّر توجيهات شيوخه ومعلميه، ممن لهم باعٌ ونظر. فمنهم يتعلم الراعي كيف تورد الإبل. ومنهم نرى الواقع بعين العلم والهدى لا بعين التنظير الجاف أو الجهل العقيم. وهذان نقيضان. كلاهما ميل عن الصواب ومجلبةٌ للفساد. فالأول يقع ويميل كما وقع ذلك الغر فاتّهم القراءة بأنّها انفصالٌ عن الواقع. والثاني يميل فيرى الواقع بلا نور، فيتخبط في ظلمات الجهل.

وأما ما يدّعيه الجُهّال بأن في الكتب مبالغات كاذبة، أو أن الذاكرة لا يُعوّل عليها في استحضار المشاعر والأحداث فأنّى للكاتب أن يدونها فتنفع! نقول: هذا يؤكد ركاكة ما يقرؤون. وضحالة الأفكار، وبلادة الأحاسيس لدى كُتّابهم بل وضعفهم العلمي والأدبي. وليس من العدل أن يُتّهم كل الكُتاب بجريرة كاتب فاشل اختاره قارئٌ فاشل.

وأما دعواهم بأن الكتب تسرق الوقت الذي يُفترض أن يعيشه المرء مع من حوله من الناس والرفاق. فهذا محض كذب وافتراء على الكتب، فاليوم لا شيء أضيع لأوقاتنا من الأجهزة التي بين أيدينا، شغلت أوقاتَنا وعطلت إنجازنا، وهي ما سرقنا من أهلنا وممن حولنا ومن حياتنا التي كان يتوجّب علينا أن نعيشها، وهي التي يُغرّد منها ذلك الداعي إلى العزوف عن القراءة زعما منه أنها تسرق وقته.

أما الكتب البريئة فهي الرفيق والصديق والجار والأنيس. هي الواقع والماضي والمستقبل. ألم تسمعوا قول الجاحظ: "لا أعلم جاراً أبرّ، ولا خليطاً أنصف، ولا رفيقاً أَطْوَع، ولا معلماً أَخْضَع، ولا صاحباً أظهر كفاية، ولا أقلّ خيانة، ولا أكثر أُعجوبة وتصرّفاً، ولا أقلّ صلفا وتكلّفاً، من كتاب."

أما قولهم "لا نريد القراءة غاية للحياة، بل نريدها مجرد وسيلة لتمضية الوقت" فما نحن بدفاعنا عن القراءة نجعل منها غاية. بل نُصرّ أنها وسيلة، ولكنّها ليست كأي وسيلة. هي أُمّ الوسائل، فما من علم ولا هدف ولا حُلم ولا قمة إلا يمُرّ بهذه الوسيلة. 

وحتى لو تجاوزنا كلّ هذا، فإن دعواهم تنقض نفسها؛ وفي ذمّهم مدح ومنقبة، فإنّ كَوْنَ الكتبِ سفينةً تُبحر بقارئها إلى عالمٍ رحبٍ من الخيالات والمجازات، لعَمري باب خير عظيم، لأنّ سَعَة الخيال تُنمّي القدرات وتُشجّع الإبداع، أما أن نقيّد عقول الناس في حيّز حياتهم اليومية، وضحالة أفكار أجدادهم وآبائهم، وأن نحرم ألبابهم من أن تسيح وتُبحر خارج الإطار التقليدي فهذا والله أعظم الظلم وأبشعه.

وأقول ختاماً إني لا أعلم عظيماً إلا كان شغوفاً مدمناً على القراءة، ولا أعلم عظيماً إلا كان داعياً للقراءة والعلم. بل ولا أعلم شيطانياً إلا وكان صادّاً عن القراءة التي هي باب العلم الأعظم، ووسيلته المثلى، ألا تصدقون؟ ألم تسمعوا قول ابن الجوزي: "اِعلَم أنّ أول تلبيس إبليس عَلَى الناس صدُّهم عَنِ العلم لأنَّ العلمَ نور؛ فإذا أطفأ مصابيحهم خبطهم فِي الظُلَم كيف شاء”.

فلا تكونوا من أصحاب إبليس وكونوا من أهل اقرأ. ولا تَسُدّوا على الناس باب خيرٍ ونور وكونوا داعين لكل علم ووسيلة له، فبه تنال الكمالات وبه يخرج من الظلمات.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب