أبوة الشيوخ

      مجلس جميل في إحدى زوايا مقاهي الرياض الكثيرة، تزينه اللوحات الجذابة، وفيه الأرائك المريحة، تدور به أكواب القهوة والشاي وغيرها من طيبات المشروب والمطعوم.

     أتأمل هذا المشهد المنقول لي من ذلك المكان البعيد، وأتساءل في نفسي: هل الأماكن الجميلة والمجالس الوثيرة كافية لنستمتع بها ونعيش فيها أوقاتاً جميلة ولحظات سعيدة؟ أم أن المكان مهما كان رائعاً فلابد أن يوجد فيه أنيس لطيف يزيد المكان زينة وبهاء؟ انقدح في ذهني هذا السؤال، بعدما حدثني أحد الأصدقاء عن صديقه الذي سيسافر ويفارقه بعدما جمعته لقاءات كثيرة معه في هذا المكان الهادئ البديع.

     أقول إن المكان الجميل؛ جذاب ويوحي بالسعادة، والباطن يتأثر بالظاهر، والظاهر يتأثر بالباطن؛ على أن الحقيقة أن جمال الظاهر لا يعكس بالضرورة رضا النفس وانشراحها في الباطن. فأنا أرى أن جمال الباطن قد يزين الظاهر مهما بدا سيئاً. ولكي يتضح المقال أنقل لك هذه الصورة التي عشتها مرات ومرات. كم من مرة كنت فيها في مكان ضيق الفسحة، سيء الطقس، قليل الخدمات، وعلى الرغم من ذلك، فقد قضيت فيه أجمل الأوقات.  لا لأني أحب الضيق وسوء الجو وحياة الكدر؛ ولكن لتلك المشاعر التي عشتها مع من صحبته فيها. بالمقابل وعلى الجهة الأخرى، كم من مكان مزين بأبهى الحلل، مبهرج بأفخم الزخارف، على أني لا أتذكر فيه إلا الضيق والكدر، لا لأني عايشت فيه موقفا حرجاً، أو أمراً سيئاً، بل لأن القلب كان أجنبياً غريباً عمن حضر وكان في تلك البقعة. وما أصدق الناس في قولهم: "الضيق ضيق القلوب". أما الأماكن الضيقة فأنها تتسع متى ما اتسعت النفوس.

     معنى آخر يدلني على أن العبرة بالقلب وما حواه، لا بالمكان وما زواه. أني لمّا جئت لأصف ذلك المجلس في صدر هذا المقال محاولاً تجريده عن إنسانية الحاضرين ومشاعرهم، لم أستطع أن أكتب أكثر من السطر والنصف، ولم أفتئ أحاول منع نفسي من أن أقحم المشاعر البشرية ليكتمل بها ذلك الوصف، لم أجد ما يعبر عن المكان دون الحديث عن تلك الروح التي تبعث فيه حين الحديث عن ناسه وأهله. ويعبر العوام عن هذا المعنى بقولهم: "الجنّةُ بلا ناس لا تُدَاس". فالمكان الفاتن مهما بدأ خلاباً فهو دون اللمسة الإنسانية: قفر وفراغ. تلك طبيعتنا البشرية بالأنس بالآخر اللطيف والاستيحاش من الفارغ والخبيث.

      فذلك المجلس لو لم يضم أصدقاء وإخواناً تألفهم النفس ما كان ليحتل تلك المكانة الكبيرة في قلب صديقي. وما كان ليكون له ذلك المقام عنده. فكيف إذا اجتمعت تلك النفوس على غاية كبرى وهدف سامٍ، كأن تجمعها أوراق العلم والطلب، ومجالس الاستفادة والإفادة. لهذا المعنى أعتقد أن الفراق صار أشد على النفس، أما المكان فإنه باقٍ وموجود ولو رحل عنه الناس، لكن من ذا الذي يعيد قصص الرفاق والمعاني الكبيرة التي جادوا بها؟

      غير أن هذا الفراق كان على النفس أكبر وأعظم لمعنى آخر؛ وهو أن الراحل ليس صديقاً عادياً، ولا مجرد أخٍ صالح في الله، بل كان لصديقي بمقام المعلم والموجه، وهذه من أعلى مقامات المحبة وأجلها. فمحبة الشيوخ من جنس محبة الآباء الفطرية. وعلاقة الطالب بشيخه تعبير عن الأبوة الروحية لدى المسلم، وهي أجل وأعظم من الأبوة البدنية، فالأولى تعترض العبد من جهة النسب، والثانية تعترضه من جهة التربية والتأديب والتعليم. وهذا من جميل المعاني التي أتى عليها العصيمي -وفقه الله- في تعظيم العلم، فكان مما قال:

"وكذلك المعلمون هُم للطلبة من جنس الوالد بل هم أشرف من ذلك، لأنّ الوالد إنّما هو أبٌ للنطفةِ والبدن، وأمّا المعلم فهو أبٌ للروح والنفس، وأُبوّة الروح وهي الأبوّة الدينية المعنوية أشرفُ وأعظمُ من الأبوّة الطينيّة البدنية."

     وهو معنى شرعي صحيح، فقد روي عن أبي بن كعب، وابن عباس أنهما قرآ: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم" والأبوة هنا ليست أبوة النسب إجماعاً -كما نقل ذلك العصيمي- بل هي أبوة الروح، والاعتراف بحق النبي صلى الله عليه وسلم وفضله على الأمة بإخراجها من الظلمات إلى النور، والعلماء والشيوخ هم ورثة الأنبياء، وهم أولى الناس اليوم بتلك الأبوة الروحية. وليت شعري كيف لك أن تصف تلك الأبوة وتلك المحبة، وما يجده الطالب لشيخه ومربيه، لشخص لم يذق تلك المحبة، ولم يرتشف من معينها الصافي، يا لعظم خسارته، وما أكثر ما فوته.

      أستحضر تلك المحبة وأستذكر شيوخي والمربين الكرام، الذين لم يزدني مرور الأيام إلا حبا لهم ومعرفة بفضلهم وعظيم منتهم علي، فبالرغم من سفري عنهم وانقطاع الوصل بهم جسداً، إلا أني لا زلت أتذكرهم بكل خير، وأستذكر توجيهاتهم وكلماتهم، بل وأستشهد بها، وأعيش معانيها، فهنيئا لمن وهب نفسه لذلك المقام، وما أعظم المثوبة والصدقات الجاريات التي تجبى إليه من طلبته وأبنائه. فهو بمقام المتبني لتلك الأجيال التي حمل همها وغرس فيها الخير والصلاح فأثمرت له  ضياع وبساتين من الأجور والصالحات.

       والأمر الجميل أن تلك المشاعر المملوءة بالمحبة والتقدير هي مشاعر متبادلة، فالشيوخ يحبون ويقدرون الطالب المتأدب في سمته المتميز في علمه، بل إنهم كثيراً ما يكافئونهم بأنواع المكافآت، ومن أعظم تلك المكافآت أن يخص الشيخ طالبه بشيء من العلم دون أقرانه، وقد بوب البخاري رحمه الله في صحيحه: باب من خص قوم بالعلم دون قوم. ونص أهل العلم أن من صور ذلك أن يخص الشيخُ المتميزَ من طلابه بشيء من العلم تقديراِ لجهده وأدبه وما يبذله في سبيل العلم، وهذا معنى معروف مشهور لدى أهل العلم والفضل.

      ومن جميل تلك المواقف وما عايشته، أنني في إحدى شهور رمضان الماضية، كنت أُسمّع عند شيخي -رحمه الله- فجراً، وفي أحد الأيام أتيت عليه وكان متعباً تعباً شديداً، فجلس بعد الصلاة في المجلس في آخر المسجد، ثم اضطجع وطلب مني أن أبدأ بالقراءة تقديراً لحضوري، وما رضي أن أنقص مما حفظته شيئاً، بل استمع إلي حتى انتهيت بما أتيت به كاملاً. على أنه لو ردني في ذلك اليوم فما عليه من شيء، ولكنه أبى ألا أن يظهر لي محبته ومقامي في قلبه. وأتذكر أنه أوحى إلي بطريقة ما بأن هذا الفعل مما لا يفعله إلا مع خواص طلابه، وأنه أخذ ذلك عن شيخه الذي كان يخصه كذلك، وقد فرحت بذلك فرحاً عظيماً ولا زلت أعيش في أفياء تلك المحبة والخصوصية.

       وأتذكر موقفاً آخر، كان في اعتكاف رمضان سنة 1440هـ. بعد صلاة القيام طلب مني أحد مشايخي الفضلاء أن أذهب لأحضر دفتري ثم أتي إليه، فلما جئت إليه طلب مني أفتح الدفتر على صفحة فارغة وأن أدون معه، ثم بدأ يلقي علي درساً مكتمل الأركان، حقه أن يقدم في جمع كبير، إلا أنه خصني فيه، ووجهه إلي وحدي، ولا تزال تلك الفوائد والمهمات التي كتبت مخطوطة على دفتري، أعود إليها بين الفينة والأخرى، فأنتفع بها، وأدعوا له. فحفظ الله شيوخنا الكرام وجزاهم عنا  خير الجزاء.

      أكتب هذه الكلمات وأنا في سفر أفارق فيه طلابي ومجالس العلم مع الرفاق والأحباب، وأعترف بأن حزن فراقهم قد أهمني وضيق علي سفري، كيف لا وهم الذين يصنعون على عين الله عز وجل في طريق الخير أمام عيني، وهم من يشاركني مجالس التدبر والتفقه، وهم أَمَنّ الناس عليّ، فهم الذين مكنوني من أنفسهم لأزرع وأغرس فيها خيراً، وما أعظمه من تكليف وتشريف وما أشقاني إن أسأت وضيعت الأمانة. وقد جاء ابن القيم رحمه الله على هذا المعنى في كتابه الفوائد، فقال:

"أَنْفَع النَّاس لَك رجل مكّنك من نَفسه حَتَّى تزرع فِيهِ خيرا أَو تصنع إِلَيْهِ مَعْرُوفا فَإِنَّهُ نعم العون لَك على منفعتك وكمالك فانتفاعك بِهِ فِي الْحَقِيقَة مثل انتفاعه بك أَو أَكثر وأضر النَّاس عَلَيْك من مكّن نَفسه مِنْك حَتَّى تَعْصِي الله فِيهِ فَإِنَّهُ عون لَك على مضرّتك ونقصك"

أصدقكم القول بأن تلك المراتب عندي من أجل مراتب المحبة وأصفاها، البعيدة عن سفاسف الأمور والرغبات، بل هي محبة لله وفي الله ولأجل الله. وما أخسر من ضيع هذه المعاني، سواء من الطلاب بسوء أدبهم وتقصيرهم وجهل حقوق شيوخهم، أو من المعلمين بارتياضهم غير سبيل العلماء والمربين وسبيل سيد المربين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الطريفي -فرج الله عنه- في التعليق على مختصر جامع العلوم والحكم:

"وعادة الكبار النصح بالارتشاف من المنابع الأصلية، فالسواقي تُغير الماء، وإن بقي اسم الماء يُطلق عليه ، فالمنابع الأصلية في العلم للنفس أهنأ، وللحق أمرأ ، وللعِيِّ أبرأ ."

ختاماً: لا أكتب لكم هذه الحكايات والتفاصيل لأزكي نفسي، أو أن أظهر لكم تميزي على أقراني، فأنا أعلم الناس بنفسي المقصرة، وبضاعتي المزجاة، وأنا وإن كنت خصصت بشيءٍ دون غيري، فلربما خص غيري بأشياء أفضل مني، والله هو الموفق والهادي. ما يهمني الآن هو أن أنقل لكم شيئاً عن حقيقة رابطة الطالب بشيخه ومربيه، لمن لم يعش في تلك البيئات ولمن لم يجلس بين يدي الشيوخ، أنقل ذلك لتعرفوا النعيم الذي يعيش به أهل العلم وطلبته، ولأدعوكم لقرع هذا الباب، وألا تتأخروا عن حضور مجالس القرآن والعلم متى ما سنحت لكم الفرصة. 

تعليقات

  1. جميل جداً وصفك لتلك العلاقة التي لن يعرفها إلا من ذاقها
    زادك الله علماً

    ردحذف
    الردود
    1. أشكر لك تعليقك ودعمك، بارك الله فيك وأسعدك الله.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب