غربة دون غربة

    ممتن للهدف الذي أعلنته وألزمت به نفسي في بداية هذا العام، بأن أكتب مقالاً واحداً كل شهر على أقل تقدير، فالآن تحول الأمر إلى هم أحمله من بداية كل شهر بعد أن كان قبل ذلك مجرد هواية تأتي أيام وتغيب شهور. كانت الغاية من وضع هذا الهدف ألا تنقطع هذه العادة، وأن تتطور أكثر، لأنه لا سبيل للتقدم والتطور دون الممارسة والمحاولة. على أني لا زلت أطمع في الاستماع أكثر لآراء وانطباعات القراء، فالمؤمن مرآة أخيه، وأقر أني لا زلت صغيراً في هذا الميدان وأنني بحاجة إلى كثير من التوجيه والتصويب. 
    أكتب هذه مقالة هذا الشهر من عاصمة الجمال -كما يحلو للبعض أن يسميها-، فأحببت 
أن أطلعكم فيها على شيءٍ مما عايشته في هذه الغربة والتجربة الجديدة. على أنها ليست غربتي الأولى فأغلب حياتي كانت خارج البلاد، وليس سفري الأول وحيداً، بل قد سافرت لوحدي مرات غيرها.
    على أن في هذه الرحلة ما يميزها، وفي كل تجربة يعيشها الإنسان هناك ما يجعل منها مميزة. كما أن لكل إنسان منا ما يميزه عن غيره. سواء من الأفكار أو التكوين أو الرؤى، فالمرء هو ذلك الخليط بين تجاربه وثقافته ومعتقداته، فلا تحصر شخصيته في الأولى، ولا تقيد بخلفيته الثانية، ولا تختزل في الثالثة بل هو ذلك المركب بجميع أركانه. وبفهم هذه الطبيعة تستطيع أن تفهم كيف لتجربة واحدة أن تنتج مجموعة من الأشخاص المتناقضين. 
    أعود إلى ما يميز رحلتي. هي إلى مكان أبعد بكثير عن سابقه من الرحلات، وإلى بيئة مختلفة أكثر عن تلك البيئات التي سافرت إليها من قبل، بل إلى قوم يتكلمون بلسان لا أفهمه ولا أعرفه، طبائعهم تختلف عن طبائعنا. قوانينهم مختلفة، الخطأ والصواب مختلفان، التقاليد والعادات مختلفة.
    شاء الله أن أبدأ في قراءة شيء من رحلة المفكر عبد الوهاب المسيري الفكرية في أيام رحلتي الأولى، فأسعفني رحمه الله بتعبير جيد عن هذه النقلة المفاجئة للفرد العربي المسلم من بيئته ومجتمعه إلى المجتمع الغربي على أنه انتقال من بيئة تراحمية إلى بيئة تعاقدية. فبعد أن عاش أحدنا وتربى على الكثير من معاني الإحسان والعطاء دون مقابل أو مردود، تأتي البيئات التعاقدية لترسخ فكرة: لا شيء بالمجان، كل شيء له مقابل، وكل مقابل لابد أن يدفع، سواء شعرت بذلك أم لم تشعر. 
    جعلتني هذه الفكرة أتذكر نقاشاً قديماً مع أحد الأصدقاء الذين عاشوا في أوروبا، وبالرغم من أن النقاش قديم نوعا ما، إلا أني لا زلت أتذكر شيئاً منه إلى الآن، كان حديثنا حول فكرة الهدايا وتبادلها، كنت أؤكد لذلك الصديق أنه يسعدني أن أهدي من أحب أي شيئاً ولو كان زهيداً، دون أن أنتظر منه رد الهدية، لأنني أؤمن بأن الهدية تجلب المحبة وتبني جسور المودة، تمثلا بقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"تَهادُوا تَحابُّوا"*

على أن صديقي أصر أن في الهدية أمراً ثقيلاً، فمن يهديه شيئاً هو بمقام من يكلفه بأن يرد له تلك الهدية، وهنا يبدأ رحلة البحث عن الهدية المناسبة، وهذا ما يرهقه ويتعبه ويشغله، فتفقد الهدية قيمتها القلبية. وأتذكر أني كنت مصراً في ذلك اليوم على أن التعامل مع الهدية بمبدأ المقابلة يسلبها الكثير من المعاني الجميلة التي كانت لأجلها، فبعد أن كانت الهدية في المجتمعات التراحمية تعبيراً عن المحبة والمودة، صارت في المجتمعات التعاقدية وسيلة لسد الديون وإنجاز واجبات مجتمعية حتمية. 

    بهذه المثال البسيط أحب أن أنقل لك شيء من الاختلاف بين المجتمعين، أعني أنه حتى لو تشابهت المظاهر بين المجتمعات ألا أن القلوب والنيات كثيراً ما تتعارض، فالهدية موجودة هنا وموجودة هناك، لكن ما يعتمل في قلب المهدي هنا يختلف كليا عما يعتمل في قلب المهدي هناك، وهذا الاختلاف أبلغ وأعظم آثراً من الاختلاف الظاهر المدرك بداهة بالحس. 

    تأملت في هذه الكلمة "مجتمع تعاقدي" فرأيت أن أول لبنات بناء هذه المجتمعات على هذا النحو كانت في النظرة المادية النفعية التي تبنتها، وبها يتضح ما آلت إليه تلك المجتمعات من خواء وفراغ روحي، جرد الإنسان عن الكثير من المعاني الإنسانية، فالأسرة، والصداقة، والوفاء، والمحبة، والإحسان، كلها معانٍ واهية في مقاييس المادة. 

    وغياب هذه المعاني والحاجات الفطرية الضرورية للنفس، هو دافع حتمي ليهرب الإنسان إلى محرمٍ يسليه وينسيه حقيقة الفقد الذي يعيشه ولو لبرهة قصيرة من الزمن، وليس غريباً أن يعيش ذلك الإنسان في فوهة كآبة مستمرة، أو في حياة يركض فيها نحو غايات لا يعرفها ولا يدركها، بل مكباً على وجهه. وعلى كل فليس كل من في هذا المجتمع على هذه الشاكلة وليس كل من في مجتمعنا على نقيض ذلك من المحبة والتراحم، بل كثيرا من أشكال التعاقدية بدأت تزحف إلى مجتمعاتنا. والعاقل يعي ما أقصده وينزل الفكرة منزلها.

    دعونا الآن نبتعد عن الكليات وعن نظرة الطائر الشمولية، تعالوا لنهبط سويا إلى تجربة الإنسان الفردية، ولننتقل سويا إلى سؤال السفر الأول، الغربة: هل أشعر بالغربة في هذه البيئة؟ حقيقة وعلى الصعيد الشخصي أقر بأن للغربة أنواع، فهناك غربة الروح وهي أن تكون الروح غريبة بين من حولها من الناس ولو تشابهوا باللسان والنسب واللون، وهذه أشد أنواع الغربة، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها حين قال: 

"بَدَأَ الإسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كما بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ."*

وقد فسر العلماء بأن عودته غريباً ليست بقلة الاتباع وبقاء المرء وحيداً بالإسلام بل الغربة بكونه غريباً في نفوس الناس، ولا يمكنني أن أنسى تلك الكلمات التي سمعناها صغاراً في مطلع أحد الأناشيد والتي تعبر عن هذا المعنى: 

"ليسَ الغريبُ هو الذي فارق الديارَ وودّع الأهلَ، إنما الغريبُ الذي يجدُّ والناسُ من حولهِ يلعبونَ، ويسلكُ دربَ الخيرِ والناسُ في ضلالهم يتخبطّون."

    وقد رأيت من بعض المسلمين الوافدين إلى هنا من صار أشد تمسكا بدينه ومبادئه، على أن الناس يظنون أن الأمر عكس ذلك فمن يأتِ يكون لقمة سائغة للتفلت والانسلاخ، ولكن الحقيقة أن الشعور بغربة الروح في هذه البيئة صار يدفع الكثير من هؤلاء الوافدين إلى الالتزام أكثر، فهناك من صار يرتاد الجمعيات الإسلامية بالرغم من أنه لم يدخل مركزاً ولا جمعية إسلامية في بلاده، وهناك من صار يحضر صلاة التراويح بالرغم من أنه لم يشهدها يوماً في مسجد حيه. وهناك من بدأ بحفظ كتاب الله عز وجل، وهلم جر من تلك الأمثلة المشرقة. ولا أقصد هنا تبراءة كل الوافدين، ولكني أعمد إلى تغير صورة نمطية غير دقيقة، فوجود المنحرف في مجتمع منسلخ قد يقومه، ووجود الملتزم في مجتمع منسلخ قد يحرفه، وقل إن الهدى هدى الله.

    ومن جميل ما تثمره هذه الغربة أن يستشعر الإنسان كثيراً من المعاني والنعم العظيمة التي قد يغفل عنها بفعل الاعتياد. فأن يجد الإنسان الطعام الحلال الطيب بكل يسر وسهولة نعمة وفضل لم أتصور أن أفقده في يوم من الأيام، والصلاة في جماعة في مسجد يتراحم به الجيران نعمة، وأن يصوم الإنسان ويفطر على صوت المؤذن الجميل بدلا من مراقبة الساعة نعمة، وغيرها الكثير من النعم التي لا ندرك قيمتها إلا حين زوالها.. لا حرمنا الله نعمه، ولا غير علينا إلا إلى حال أفضل.

     وعلى ذكر الأذان، توفي قبل أيام قليلة منشد سوري اشتهر بأنه قد أذن في قصر الحمراء في غرناطة المسلمين العظيمة، لما قالوا ذلك عنه، ذهبت لأرى ذلك المقطع، ذهبت لأسمع صوته وهو يصدح بعبارات الأذان في ذلك القصر المسلوب. لما سمعته وقعت كلمات الأذان في قلبي موقعاً لم تقعه من قبل، لعلي في صوته الشجي الجميل سبباً -رحمه الله-، ولعلي فقدي لتلك النعمة العظيمة جعلني استشعر معانيها أكثر. وهذه دعوة لكل إنسان مريد بأن يتأمل عبارات هذا النداء الرباني العظيم.  

    أعود إلى ما كنت أقوله عن غربة الروح، على الصعيد الشخصي من عظيم نعمة الله أن غربتي هنا لم تكن من تلك الغربة، فقد هيأ الله عز وجل لي صحبة صالحة من أول دقيقة في هذه البلاد، لنصوم ونصلي ونقوم لله معاً، ولا أتصور كم ستكون هذه الغربة شديدة دون تلك الصحبة، فالحمد لله على فضله وجوده. ولا أتصور كيف يعيش الناس بلا رفقة الخير؟ أدام الله محبتنا فيه، وجمعنا على كل خير. 

    لكن وعلى الجهة المقابلة فإني أني شعرت بنوع آخر من أنواع الغربة، وهو غربة اللسان، نعم لا تعجبوا فمن أشد الأمور على المرء أن يسمع كلاماً لا يفهمه ولا يعقله، بل إن الأصعب من ذلك ألا يستطيع أن يعبر عما في نفسه للمقابل. دائما ما كنت أحدث الأصدقاء عن أن قيمة الإنسان بعقله وفضله لا بعمره ونسبه، فلما عشت غربة اللسان، علمت أن الباب الذي يكشف ذلك العقل وتلك الأفكار هو اللسان، فإذا كان لساني عاجزاً عن التعبير عما يدور في خلدي، فما هي قيمتي للمقابل؟ صفر! 

    بهذا المنطق أتصور الأمر في كل حديث يوجه إلي بتلك اللغة الأجنبية التي لا أعرف فيها غير التحيات. من هذه التجربة رأيت عظيم لطف الله مع خلقه حين قال - عز وجل - : ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم﴾ [إبراهيم: ٤]. فوجود اللسان المشترك بين الأنبياء وأقوامهم هو محض فضل ومنة من الله؛ ليفهموا عنهم ويتمكنوا من نقاشهم ومحاجتهم وقبول دعوتهم. ولو كان غير ذلك لما اهتدى أحد. ومن عظيم نعمته - عز وجل - أن يسر هذا الدين لكل من صدق بتطلب الحق ولو لم يكن ناطقا ولا عارفا بالعربية. ولا يظلم ربك أحداً ولكن الناس أنفسهم يظلمون.

هذا ما عن في خاطري عن الغربة وما سمح به الوقت، ولعل للحديث بقية في قادم الأيام.

شكراً من القلب لكل من يسأل ويشجع على استمرار المقالات. 

كتبت في الطريق من كنْ إلى باريس. 

الثلاثون من نيسان لعام ٢٠٢٣م 

الموافق العاشر من شوال لعام ١٤٤٤هـ. 


تعليقات

  1. جزاك الله خيرا شيخ عبود مقال رائع واكثر من رائع ، لما فيه من الحكم المأخوذة من الغربة ، وكان المقال رابعا من حيث صياغته ولفظه وسرد كلامه بطريقة مشوقة للقارئ ، نفع الله بك الأمة الإسلاميةوجزاك الله خير

    ردحذف
    الردود
    1. وإياكم أخي الحبيب مجد، أشكر لك تعليقك الجميل وتشجيعك، ربي يرضى عنك ويبارك فيك يا حبيب.

      حذف
  2. جزاك الله خيرًا, مقال أكثر من رائع ومفيد, أعجبني سرد الآيات والتذكير بنعم الله التي لطالما غفلنا عنها..

    ردحذف
    الردود
    1. وإياكم أخي الحبيب جمال، مرورك وتعليقك كان الأروع والأجمل بالنسبة لي. رزقنا الله الشكر والحمد.

      حذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب