أحاديث رحلة الأندلس
لننطلق الآن مع الفكرة الأولى حول رحلة الأندلس وما يتصل بها، ونعود لغيرها في قادم الأيام إن شاء الله. ودعوني أبدأ معكم بالقصة من أولها. من كان عارفاً بما سطره المسلمون في الأندلس، فإن العين لا يمكنها أن تخطئ شغفه وحلمه الكبير باستعادة ذلك المجد التليد، والماضي المجيد. وأضعف الإيمان وأقل الأحلام هو زيارة لتلك البلاد استئناساً بجميل قصورها ومروجها، وابتهاجا بزكاة عبيرها وارتشافا من معينها الصافي، وليس يرضى العاشق الولهان بأقل من هذا. لاسيما وأن الحنين قد فاض والنفس قد عافت أزمنة الذلة والانكسار.
وأنا كغيري من أولئك الناس تعرفت على الأندلس صغيراً وأحببتها، فكان حلمي أن أراها رأي العين. سحت به قارئا فمررت على كتب كتبت فيها، وكتب كتبت عنها، وكتب كتبت إليها، فازداد شغفي وازدانت لوحتها البهية في خاطري أكثر، فكبر الحلم وصارت رؤية تلك المحبوبة أمنية أكبر.
كان من جميل ما وقفت عليه خلال هذا المشوار كتاب وقعت عليها مصادفةً، فذكى نار الشوق أكثر، كان الكتاب للمؤرخ الأندلسي المميز حسين مؤنس، بعنوان: "رحلة الأندلس" روى فيه مشاهداته وما مر به في رحلته إلى ذلك الفردوس الموعود -ومؤنس لا يرضى بتسمية الأندلس بالفردوس المفقود بل هو موعود وعائد لنا ما عدنا إلى دين الله عز وجل، ردنا الله إلى دينه رداً جميلاً-، عشت معه تلك الرحلة بكل تفاصيلها، لاسيما وأن الكاتب لم يبخل برسم الخرائط والمخططات ونقل الصور التي سهلت تصور وتخيل كل ما رآه وعاينه، كما أرفق مع الكتاب خريطة كبيرة -رسمت بخط اليد- توضح ما ذكره من مناطق وبلاد. قرأت الكتاب بطبعته الأولى، التي صدرت سنة 1963، ووصلت إلى مكتبة بلدية نابلس سنة 1965. وحسب سجل الإعارة أستعير هذا الكتاب لأول مرة عام 1992م، أي قبل أن أولد.
كان مما ذكره بأن الرحلة إلى الأندلس لابد ألا تكون عابرة خاطفة، بل لابد أن تكون هادئة طويلة، ينتقل فيها السائح بالسيارة لا بالطائرة ولا القطار -فإن هذا من الموبقات عنده-، وسبب ذلك بأن زائر الاندلس لابد له أن يمر على كل الأمجاد وأن يعيش كل الأحداث والانتصارات والعبرات وأن يتشربها على مكث، لا أن يتنقل من مدينة إلى مدينة فيزور متاحف وقصور وأماكن حددها له الإسبان وأغفل وضيع غيرها. كانت هذه الفكرة موضع استحسان عندي فحملتها لتكون نصيحة أعمل بها إذا ذهبت إلى هناك. ألا أننا لما رسمنا خطة الذهاب لم أظفر بإقناع مع من معي برحلة ومغامرة كهذه، فرضيت بالقليل وتوكلت على الله؛ لأن المحب يرضى من محبوبه بأبسط الأشياء وأصغرها، وما كنت لأفوت رؤية الأندلس ولو من فوق السماء!
إلا أن القدر كان في صفي هذه المرة، فلما أتى يوم السفر المحدد، شاء الله أن تفوتنا الطائرة، لتتحول رحلتنا من إشبيلية إلى برشلونة، فصار لزاما علينا أن نستأجر سيارة نعبر بها من شمال البلاد الشرقي إلى وسطها الجنوبي، فخضنا -بحمد الله- رحلة مميزة بدأت من برشلونة وانتهت بمالقة، حاذينا فيها سيف البحر، ومررنا على مدن وضياع كثيرة.
وليت شعري كيف لي أن أصف مشاعر المرور على تلك الطرقات والوقوف عليها ونحن نعلم يقينا بأن جيوش المسلمين قد مرت من هنا، بل إن دماء الفاتحين ممزوجة بذلك التراب، شعرنا بالقرب من أشجار الزيتون وبيارات الحمضيات على الطرقات، فالطبيعة والتضاريس والأشجار كلها قريبة منها في بلاد الشام، وكأن صقر قريش عبد الرحمن الداخل لما أتى من الشام إلى الأندلس أخذ معه طبيعة الشام وهويتها وجعلها جزء من هذه البلاد. وقد روي عنه بأنه استقدم فسيلة نخلٍ من رصافة الشام التي بناها جده هشام بن عبد الملك، ثم أطلق على المنطقة التي نمت النخلة فيها مسمى الرصافة؛ تيمنًا برصافة الشام. وعلى أنه صار أميراً وحاكما في بلاد الأندلس إلا أن حنينه لأرض الشام بقي يلازمه أبد الدهر، وكان يرى في هذه النخلة الغريبة شبيهاً له في أرض الأندلس فكان مما قاله فيها:
وفي ذلك الطريق الطويل، مررنا على طركونة و على بلنسية -كما سماها المسلمون- وعلى شاطبة التي خرج منها الإمام الشاطبي صاحب الموافقات عليه رحمات الله تترى. والتي قال فيها الشاعر:
"نعم ملقى الرحل شاطبة
لفتًى طالت به الرُّحَلُ
بلدة أوقاتها سحرٌ
وصَبًا في ذيله بللُ"
| شاطبة |
ثم أتينا على مرسية التي أسسها صقر قريش، الذي قال عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء:
"وأما الإسلام فكان عزيزًا منيعًا بالأندلس في دولة الداخل".
| مرسية |
ثم مضينا إلى غرناطة، آخر معاقل المسلمين في بلاد الأندلس، التي وسمها الناس بدمشق الأندلس لما فيها من الجمال والخصب ما يشابه أرض الشام، رأينا فيها حي البيازين الذي لا يزال على حاله التي كان عليها منذ كان فيه المسلمون يخبرنا عن حياة الشعوب في ذلك الزمن، ترى فيه الساحة والنافورة الشامية ومنه تطل على تلة قاسيون -تيمنا بقاسيون الشام- التي يقع عليها قصر الحمراء، إطلالة خلابة ومنظر مطرب، يخبرنا بما كانت عليه حياة الإنسان العادي في ذلك الوقت عدا عن حياة الملوك والأمراء.
| حي البيازين |
" في المسيحية الصحة منكرة بوصفها حسيَّة، بل إنَّ الكنيسة تقاوم النظافة، فأول إجراء قام به المسيحيون بعد طرد مسلمي الأندلس كان إقفال الحمامات العامة، التي كان في قرطبة وحدها منها ٢٧٩ حمامًا".
| قصر الحمراء |
وبعدها توجهنا إلى قرطبة، درة الأندلس وتاجها المرصع، والتي بمقام الرأس من الجسد في بلاد الأندلس، دار العلم والعلماء، رجالا ونساء، واسالو عن عائشة بنت أحمد القرطبية، التي قالوا عنها إنها لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علماً وفهماً وأدباً وشعراً وفصاحة وعفة وجزالة وحصافة، كانت حسنة الخط تكتب المصاحف والدفاتر وتجمع الكتب وتعنى بالعلم، ولها خزانة علم كبيرة. ومنها خرج المفسر الشهير أبو عبد الله محمد بن أحمد القرطبي ومنها خرج للعالم الفقيه الكبير ابن حزم الأندلسي، ومنها خرج المحدث العلم بقي بن مخلد، والعالم الطيار عباس بن فرناس، ومنها خرج الطبيب الذي يعتبر الأب الروحي لعلم الجراحة الحديثة أبو القاسم الزهراوي، وغيرهم من الأعلام والعلماء، رحمهم الله وجعل الجنة مثواهم.
ازدهرت في قرطبة الحضارة الإسلامية أيما ازدهار وبلغت ذروة سنام التقدم والتطور. دخلها صقر قريش في مثل أيامنا هذه من عيد الأضحى من سنة ١٣٨هـ. هكذا كانت أعيادهم، أعياد نصر وتمكين ونشر لدين الله القويم. كان في هذه الدرة أربعة عجائب فاقت بهن الأمصار قاطبة، يقول الشاعر:
"بأربعة فاقت الأمصار قرطبة
منهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان والزهراء ثالثة
والعلم أعظم شيء وهو رابعها"
| قنطرة الوادي، ومن خلفها جامع قرطبة |
وحتى لا أثقل على القارئ الكريم فلن أمر على هذه الأربع، لكني لن أفوت الحديث عن مشاعر دخول جامع قرطبة العظيم الذي كان جامعة ضخمة يضم في مُتكآته معلمين ومدرسين لشتى العلوم والفنون ينثرون دررهم للطلاب المتحلقين حولهم القادمين من كل الأمصار. كان الشاب الأوروبي صاحب الهم والهمة العالية لا يرضى بأقل من الدراسة في هذه الحواضر العلمية، كانوا يفخرون على بعضهم بالدراسة في حواضرنا، فهذا درس في قرطبة وذاك في طليطلة والآخر في إشبيلية، وكل واحد منهم يفخر على الآخر بمعرفته بأشعار العربية وتعبيراتها، واستمع لشهادة القِسُّ ألفارو القُرْطُبي (Álvaro de córdoba)، التي كتبها سنة (854م)، ينعَى فيها حال شباب النصارى ذلك الوقت وذوبانهم الحضاري في لغة وأساليب الثقافة الإسلامية، وإعجابهم بآدابها، واحتقارهم المسيحية، حيث قال فيها:
((يطرب إخواني المسيحيون بأشعار العرب وقصصهم، فهم يدرسون كتب الفقهاء والفلاسفة المحمديين لا لتفنيدها، بل للحصول على أسلوب عربي صحيح رشيق. فأين تجد اليوم علمانياً يقرأ التعليقات اللاتينية على الكتب المقدسة؟ وأين ذلك الذي يدرس الإنجيل وكتب الأنبياء والرسل؟ وا أسفاه! إن شباب المسيحيين الذين هم أبرز الناس مواهب، ليسوا على علم بأي أدب ولا أية لغة غير العربية، فهم يقرأون كتب العرب ويدرسونها بلهفة وشغف، وهم يجمعون منها مكتبات كاملة تكلفهم نفقات باهظة، وإنهم ليترنمون في كل مكان بمدح تراث العرب. وإنك لتراهم من الناحية الأخرى يحتجون في زراية إذا ذكرت الكتب المسيحية بأن تلك المؤلفات غير جديرة بالتفاتهم. فواحر قلباه! لقد نسي المسيحيون لغتهم، ولا يكاد يوجد منهم واحد في الألف قادر على إنشاء رسالة إلى صديق بلاتينية مستقيمة! ولكن إذا استدعى الأمر كتابة بالعربية، فكم منهم من يستطيع أن يعبر عن نفسه في تلك اللغة بأعظم ما يكون من الرشاقة، بل لقد يقرضون من الشعر ما يفوق في صحة نظمه شعر العرب أنفسهم))
ولك أن تتصور ما يختلج قلب المسلم حين يرى تلك المنارة العلمية، وذلك الجامع الذي كان يعبد فيه الله وحده لسنوات وعقود متطاولة، قد دنس اليوم بدنس الشرك وما يعكر صفو الإيمان. لا يمكن للناظر لتلك الحال إلا أن يبكي ألماً وكمداً على ما صارت إليه أحوالنا، لاسيما وهو يشاهد آيات التوحيد والإخلاص يحاذيها ناقوس النصارى وصليبهم الشركي، وما أصدق أبو البقاء الرندي حين وصف المساجد التي قلبت إلى كنائس باكية بمحاريبها ومنابرها:
"حَيثُ المَساجِدُ قَد صارَت كَنائِس
ما فيهِنَّ إِلّا نَواقِيسٌ وصلبانُ
حَتّى المَحاريبُ تَبكي وَهيَ جامِدَةٌ
حَتّى المَنابِرُ تَبكي وَهيَ عيدَانُ"
يكفي إلى هنا لمقال هذا الشهر وأعتذر للقارئ الكريم على هذا المقال المكتوب على عجل ودون خيط ناظم واضح. نلقاكم في مقال الشهر القادم بإذن الله تعالى، سأرفق تباعاً بعض الصور لأسئلة وصلتني عن رحلة الأندلس مع إجابتها.
شكراً لوصولك إلى هنا عزيزي القارئ، يسعدني تعليقك، وتسعدني مشاركتك المقال مع من تحب. (=
أحب مقالاتك
ردحذفأتمنى ان تستمر دومًا