استثنائيات عديدة = عين يُغفِلها المحلل

     لابد لكل صاحب هواية من أعلام يقتفي آثارهم ويسير مسيرهم، ويسترشد بخطواتهم، ومن سار بلا هادٍ ولا دليل ضل الطريق حتما، وما أجمل جواب أبا بكر الصديق لمن كان يسأله عمن معه وهو في طريق الهجرة، فيجيب رضي الله عنه: "هذا الرجل يهديني السبيل"، "فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق، وإنما يعني سبيل الخير"*. وبهذا الهادي بلغ الصديق ما بلغ وعلا شأنه ما علا، حتى صار نجماً ساطعاً في سماء الأمة. 

    انطلاقا من هذا المبدأ بأهمية وجود من ترمقه العين لتسير مسيره في كل مجال وفن، فإني وعلى الصعيد الشخصي في عالم الكتابة، عيني لا تكف عن مراقبة أحد الكتاب المبدعين الذي أفرزتهم الحالة الإسلامية، أحب ما يكتبه، وأحب ما عنده من تضلع وسعة إطلاع ونبوغ، وأعتقد أن فيما يصدره من مواد ما قد أضناه الجهد والجمع وطول التأمل والتفكير، وفي زمن الكسل يندر أن نجد من يجتهد ويجود أعماله إلى ذلك الحد. هذا الكاتب هو الأستاذ عبدالله الوهيبي صاحب كتاب التبرج المسيس وكتاب الاستشراق الجديد، وغيرهما، وهو صاحب مدونة شخصية جميلة موسومة باسمه. كان هذا الكاتب المميز هو الباب الذي تعرفت عن طريقه على كتاب الاستثنائية الإسرائيلية الذي سأتحدث عنه فيما سيأتي.

    فأحببت قبل الشروع بالحديث عن الكتاب أن أعرفكم على هذا النجم الصاعد الذي أتمنى له أن يزداد لمعانا وارتقاء، وعلى البوابة التي ولجت بها إلى هذا الكتاب، وبالطريقة التي نصل بها إلى الكتب المميزة. وبالمناسبة فقد اجتمع في هذا الكتاب داعيان للقراءة، فالأول هو ترشيح الأستاذ عبد الله له، والثاني هو صدوره عن دار تكوين للدراسات والأبحاث، وهي من الدور التي سيفوت القارئ على نفسه كثيراً من الخير إن لم يعنى بما تصدره، وهذا سرٌ آخر أبوح إليك به عن طرق اختيار الكتب الجيدة، فمتابعة دور النشر المميزة مما يجلب لك الكثير من الترشيحات الرائعة. ومن تلك الدور: رواسخ، آفاق المعرفة، دلائل، البيان، ركائز، وغيرها. 

المؤلف قبل كتابه

    مؤلف كتاب "الاستثنائية الإسرائيلية (منطق الصهيونية الهدام)" هو محمد شهيد علم، عالم اقتصاد وأكاديمي باكستاني. يكتب في الاقتصاد السياسي، وفي علم الاجتماع. وعندي ملحوظة شخصية متواضعة قد يشوبها بعض الخطأ حول أهل الاقتصاد، وهي شعور بأن المختصين في علم الاقتصاد إذا تحدثوا في علم الاجتماع أجادوا وأبدعوا في تحليل المجتمعات، وإذا تحدثوا في علم السياسية حلقوا بعيدا عن ظواهر الأحداث، وإذا فتشت لديهم عن الدوافع والكوامن في النفوس وجدت لديهم إجابات شافية ومقنعة. ولا أعلم مدى واقعية هذه الفكرة إلا أنني ألمحها جيداً لدى الاقتصاديين بشكل عام؛ قد يعود السبب إلى ذلك أن الحياة لمّا صارت في القرون الأخيرة أكثر مادية لائم أن يحلل واقعها ويعرف حقائق أفرادها من هم ألصق وأعلم بعلم المال والمادة. وقد لمحت هذا التميز في هذا المنتج الذي بين يدي -الاستثنائية الإسرائيلية- فقد حلق الكاتب فيه بعيداً وأبدع فيما سطره فيه، وسنرى في قادم السطور شيئاً من ذلك الإبداع والتميز. 

الكتاب

    يعتبر الكتاب كتاب تاريخي فكري سياسي جغرافي، يبحث  بجوهره عن المنطق الكامن والدوافع العميقة التي تسوق الصهيونية وتجعل منها استثناء على ساحة العالم، وذلك بالكشف عن أصول ومركزيات تلك الاستثنائية لدى المؤسسين ثم بفهم مدى ارتباط دولة الاحتلال بها. ويتلو ذلك تحليل تاريخي فكري لما حدث لهذا الكيان. ليصل بنا الكتاب إلى تشكيل درة التاج وما أعتقد أنه الهدف الرئيس، ألا وهو وهو رسم المسار العام الذي تتخذه الصهيونية في مسيرتها. ودعونا نحرر ما نقصده بالاستثنائية ها هنا.

    إن كلمة استثنائي تعطي انطباعا بالتميز والفرادة لمن يوصف بها، وكذلك الأمر هنا فإذا تأملت في واقع دولة الاحتلال؛ فلن تخطئ عينك أن دولة الاحتلال هي دولة استثنائية بجميع المقاييس، ابتداء من بدايتها وفكرة نشوئها ومبررات قيامها، ثم وصولاً إلى جرائمها التي لا تعد جرائما ولا تخضع لمعايير المحاسبة الدولية. ولنكون أكثر قرباً وفهماً من هذا المنطق، دعونا نحلق سوياً لنحرر ما بين هاتين النقطتين الزمنيتين، أعني نقطة النشوء ونقطة العلو لنصل إلى الأشكال الثلاثة التي رأى بها الكاتب الاستثنائية الإسرائيلية. 

أشكال الاستثنائية الإسرائيلية

1- الحق الإلهي

    ويتجلى هذا في قيام هذه الدولة اللقيطة على أرض فلسطين نتيجة عقيدة مفادها أن الإله منحهم هذه الأرض، وبناء على هذا الاعتقاد فإنه يحق لهم تجاهل وشطب كل الحقوق التاريخية والقانونية للسكان الأصليين، بل وأيضا لرفعهم فوق التحليل التاريخي للوجود، واعتبارهم مختلفين عن الدول الاستعمارية من قبلهم، وهذا بمجموعه هو أمر استثنائي بلا شك؛ حيث أنه لا يوجد دولة اليوم تقوم على أسس كهذه، عدا عن أن تصل إلى ممارسات بشعة كالتهجير أو إبادة الشعوب لأجل ذلك الادعاء!

    ويمكن القول بأن هذا هو السبب الرئيس في جعل أرض فلسطين هي الخيار الأول لشعب بلا أرض، أو بالأحرى وقبل إيجاد الأرض، كانت الخيار الأفضل لإيجاد الشعب كذلك؛ وما أعنيه هنا أن إيجاد المبرر الديني لجذب المهاجرين اليهود في أرض غير أرض فلسطين ليس بنفس السهولة، فبالتالي لن يكون الأمر بنفس الجاذبية التي كان بها هذا الخيار لليهود بشكل عام وللمتدينين منهم بشكل خاص.

    وهذه العقيدة بالحق الإلهي ليست مجرد فكرة يؤمن بها الصهاينة المتطرفون بل هي عقيدة قامت عليها الصهيونية، وأبشع ما فيها هو ما أفرزته من مبررات سوغت للعصابات الصهيونية ارتكاب جرائم تشيب لها الرؤوس. ويمكنك استشفاف هذه القناعة المتجذرة في نفوس الصهاينة أنفسهم من خلال مقولاتهم، يقول ديفيد بن غوريون معبراً عن هذه الفكرة:

"أنا أدعم الترحيل الإجباري للفلسطينيين... ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي" ص137

    وتجدر الإشارة إلى أنه يكمن خلف هذه العقيدة بالحق الإلهي في فلسطين دعم استثنائي، يأتي هذا الدعم من المسيحيين الغربيين الذي تشاركوا الرؤى والأحلام؛ فإن الرؤية التي قامت عليها الصهيونية وقدمها ثيودر هرتزل بعودة اليهود، كان قد صاغها مع الآباء المؤسسين لتكون جزءً من التصور البروتستانتي لنهاية العالم، فالبروتستانت يؤمنون باجتماع اليهود في أرض فلسطين ونشوب حروب هناك تمثل بداية نهاية العالم. 

    وسواء كان هذا الاعتقاد وموائمته مع التصور المسيحي جزء رئيساً من الخطة الصهيونية أم لم يكن كذلك، فإنه لا يمكن التنكر لآثر هذا الأصل في تعزيز جذور الصهيونية، لاسيما مع اعتبار وتصوير الإسلام هو الآخر والخصم المشترك لكلا الطرفين، ليرى المسيحي في هذه الشراكة تمثلاً لهوسه الصليبي وتعصبه وعنصريته العميقة ضد الإسلام وطموحاته، وذلك بزرع مشروع استعماري في قلب ذلك العالم الإسلامي. ويمكن رؤية آثار هذا الدعم الاستثنائي بالتأمل فيما قاله دانيال بايبس: 

"لنقلها بصراحة: إذا استثنينا جيش الدفاع الإسرائيلي، فقد يكون الصهاينة المسيحيون الأمريكيون هم الأصول الاستراتيجية للدولة اليهودية" ص240.

    ولك أن تتخيل أنه إذا كان بإمكان دولة الاحتلال من خلال عقيدة الاصطفاء الإلهي للشعب اليهودي حشد كل هذ الدعم وخلق هذه الظروف المميزة لاحتلال فلسطين، فإنه ليس من المستغرب أبداً أن تطالب غداً بنفس الحق ونفس العقيدة ببقية أجزاء دولتها من الشرق الأوسط، دولة النيل والفرات.  

2-  تميز الصهيونية وما حفها من فرص مواتية

    لهذا التميز أوجه وصور عديدة أكسبت دولة الاحتلال كثيراً من الاستثنائية، وفي ثنايا هذه الأوجه ما هو أمر حقيقي واقعي ومنها ما هو باطل سوقه الاحتلال، ومنها ما هو حق في أصله إلا أن الاحتلال قام بتهويله؛ ليكتسب من خلاله شكلا من أشكال الدعم والتأييد، كأن أن يضع نفسه فوق القوانين الدولية والمساءلة وإضفاء شرعية على سياساته الجائرة. سأذكر هذه الأوجه على شكل نقاط فيما يلي:

  • تميز اليهود في أمريكا ودول أوروبا،  لاسيما وأن كثير من العلماء الذين كان لهم دور بارز في تقدم الدول الأوربية وصناعة نهضتها هم من اليهود. كما أن تميزهم تمثل في تقلدهم المناصب العليا في كافة المجالات. وقد بدأ هذا الحضور اليهودي في النخبة الثرية من المصارف وشركات التمويل، واليهود على مر الزمن من أصحاب الأموال والثروات.ثم انتقل هذا الحضور إلى الصناعات الثقيلة، وشكل اليهود حضوراً قوياً في طبقات المجتمع الناشئة والمهيمنة كالأطباء والمحامين والمحاسبين والصحفيين والأكاديميين. وهذا الامتداد الواسع لليهود الصهاينة في مفاصل الدول، وفي مراكز التأثير والنقابات المهنية، سهل على الصهاينة نقل مشروعهم للآخر بل واستجلاب دعمه من كافة الأطراف.

  • المنظمات الصهيونية واللوبيات التي تشكل قوى ضغط على الدول وبرلماناتها، ويبدأ مشوار هذه اللوبيات من مرحلة الانتخابات بشراء المرشحين مقابل تحقيق ما يدعم الرؤى الصهيونية ومحاربة كل الجماعات المناهضة للمشروع الصهيوني في تلك الدولة. بل ويمتلك اللوبي أساليب كثيرة في تحقيق رؤاه ، كإطلاق حملات إعلامية تدعم توجهاته وتوجهات من يدعمه، فقد يشيطن بذلك أشخاص ويتستر على آخرين. وقد يحرك الرأي العام بنشر إحصائيات تدعم وجهة نظر معينة من مراكز بحثية تدعي الحياد. وقد يدفع الرشاوي، ويستغل القضاء، ويختلق الفضائح، والحديث يطول إذا تطرقنا إلى أساليب هذه اللوبيات وطرق إدارتها وتجنيد عملائها. ويمكن فهم عميق آثر هذه المنظمات واللوبيات بالنظر إلى ما قاله السياسي ستيف ريد -وهو تعبير عجيب ومضحك-، يقول: 

"إذا قصفت إسرائيل شيكاغو بالأسلحة النووية فإن الكونغرس سيوافق على ذلك" ص346

  • تمثيلهم القيم الغربية المدنية في وسط مجموعة من الدول التي لا تعرف شيئاً عن الديمقراطية والحكم المدني، بل هي دول استبدادية ينتقل الحكم فيها بالوراثة، وشعوبهم مجموعة من العرب الرعاع الذين لا ينبغي القلق بشأنهم، فهم كما عبر جورج أورويل "لا ناس". هذه هي محاولة ذلك المحتل الغاشم في نزع الإنسانية عن العربي حتى يكون قتله يسيراً، فالفلسطينيون محض أشياء تباد، هذا هو "تشيئ الآخر حتى يسهل تهميشه" الذي عبر عنه إيال وايزمان. وكما هي كافة أشكال وصور وانعكاسات الاستثنائية، فهذه الفكرة تعبر عن رؤية صهيونية خالصة لا عن رؤية بعض المتطرفين منهم، يقول  فيلسوف الصهيونية الروحية، الكاتب آحاد هعام:

" العرب كلهم ليسوا إلا مجموعة من البدو الهمج الذين يعيشون مثل الحيوانات ولا يفهمون ما يحدث من حولهم"ص61

  • كان الأوربيون يصورون دخولهم إلى دول العالم الثالث دخولاً يهدف لنقل قيم التقدم والازدهار ولتنوير ذلك البلد بمشاعل الحرية والتقدم، وكذلك صور الاحتلال نفسه في السنوات الأولى من مشروعه الاحتلالي، فصور أن وجوده في فلسطين سيعود بالنفع على الفلسطينيين أنفسهم، وإلى تحسين أوضاعهم ونقل التقنيات إلى هذا الشعب المتوحش ليرتقي في سلم الحضارات. إلا أن الجميع يعلم أن خلف هذان القناعان الكاذبان -الاستعمار والاحتلال- وجها آخراً أتى لنهب مقدرات تلك الدول وتدمير هويتها ومقدساتها، خلف ذلك القنع تكمن قيود تسجن الشعوب بدلا من تحريرها، وسلاسل مصنوعة من الجوع والخوف منقوعة بماء الذلة والمهانة. ولك أن تتصور أن هذه الشعارات -إقامة الحضارة ونقل التقنية إلى هذه الأرض- تخلق الاستثنائية لهذا المحتل ليبرر بها أبشع الأفعال التي قام به أمام العالم أجمع، يقول المؤرخ الإسرائيلي البارز بيني موريس:

"من وجهة نظري، تجاوزت الحاجة إلى إقامة هذه الدولة في هذا المكان على المظالم التي وقعت على الفلسطينيين بسبب طردهم، وتابع: حتى الديمقراطية الأمريكية العظيمة لم يكن من الممكن إنشاؤها دون إبادة الهنود؛ هناك حالات يبرر فيها الخير العام النهائي الأفعال القاسية والظالمة التي يتم ارتكابها على مر التاريخ."ص53

  • قوتهم العسكرية وانتصارهم المذهل على الجيوش العربية الذين حاصروها وعادوها وهددوا وجودها وحاولوا حرمانها من حقها في الوجود. وبناء على ذلك فإنها ترى أنه يجب على العالم أن يحترم قوتها ونفوذها وقدرتها الاستثنائية وجيشها الذي لا يقهر. فلابد للعالم أن يحترم القوي، ولاحظ هنا كيف تم تصوير الواقع وجعله تعبيرا عن التميز الإسرائيلي الذي يستحق الدعم والتأييد والاحترام، وليبقى هذا الأمر في ذهنك لتلاحظ معي كيف سيتم قلب هذه الصورة في الشكل الثالث من أشكال الاستثنائية لجلب الدعم والتأييد أيضا. 

  • وفرة الدول الراعية وطمع كافة الأطراف في دعم هذه النبتة التي ستنبت في قلب العواصم الإسلامية وحرصهم على أن يكون لهم حجر في الشرق الأوسط، فليست الولايات المتحدة ولا بريطانيا من قبلها الدولتان الوحيدتان اللتان ساهمتا في دعم هذا الكيان، فالاتحاد السوفيتي -مثلاً- من أوائل من دعموا هذا الكيان دبلوماسياً في الأمم المتحدة، وهم الذين دعموهم بالأسلحة الثقيلة والطائرات الحربية في سنوات حاسمة. ولغيرها من الدول أدوار كثيرة يطول شرحها، ولكن يكفيك أن تعلم أن جزء كبيرا من الدعم المادي لدولة الاحتلال يأتي من ألمانيا والذي قد يفوق في بعض السنوات ما يقدمه يهود العالم لدولة الاحتلال حسب بعض الإحصائيات، كل ذلك لتكفر ألمانيا عن خطيئتها التي لا تغتفر ولا تنسى، وليبقى شعب فلسطين يدفع ثمن تلك الخطيئة! 

3- التاريخ المأساوي الفريد

    تكمن الفكرة هنا في استغلال مجموع ما تعرض له اليهود من فواجع فريدة لم يعش غيرهم من الشعوب مثلها -حسب الادعاء الصهيوني-؛ لتبرير كل ما قد يقومون به في غيرهم من الشعوب!

    وحين الحديث عن مآسي اليهود فإنه ولا بنا من استحضار بكائية محرقة الهولوكوست، التي كان ولازال وسيبقى اليهود يقرعون العالم الغربي بسببها، هذه المحرقة التي يعد التشكيك فيها جريمة قانونية يعاقب عليها القانون في دول أوروبا، هذه هي المحرقة التي لا يمكنك البحث فيها بطريقة علمية تاريخية، أو النقاش حولها ولو بالأدلة والبراهين، هنا تختفي حرية الرأي في العالم الغربي وتظهر ممارسة الإقصاء للآخر والتعصب لوجهة نظر واحدة.  فإن الاحتلال الآن وفوق كل الاعتبارات يحق له فعل أفظع الأفاعيل وأشدها إجراما ويجب أن يكون معصوما عن النقد، وإلا سيؤدي ذلك إلى هولوكوست جديد بحق اليهود المظلومين! وهنا يلتقط كاتبنا المميز مفارقة عجيبة محزنة، يقول فيها: 

"إنها بالتأكيد إحدى مفارقات التاريخ المحزنة، أن تختبئ إسرائيل خلف ستار الهولوكوست في حين أن الناجين من الهولوكوست يستخدمون مأساة أسلافهم لغرض الإفلات من العقاب على جرائمهم." ص92

    ومن الأساليب التي يسوقها الصهاينة جيداً استكمالا لتاريخهم المأساوي الفريد، هو تصويرهم لدولة الاحتلال على أنها دولة تقع بين الكثير من الأعداء المتربصين الذي يعادون السامية ولا يكفون عن التخطيط لمحاربتهم وطردهم، وإعادة مآسيهم التي هربوا منها، وبناء على هذا فإن العالم ولابد له أن يقف مع هذه الدولة المسكينة التي تمثل يوسف البريء ضد إخوته الحاسدين، ومن هنا فإنه لا ضراوة من أي فعل شنيع تقوم به دولة الاحتلال ضد هذه الدول أو ضد السكان الأصليين، فهم الذين كادوا لها أول مرة! 

    وحين الحديث عن التاريخ المأساوي لليهود فلابد من استحضار موجة عداء اليهود في أوروبا والتي اشتدت في أواسط القرن التاسع عشر، والتي رمز لها فيما بعد بـ"معاداة السامية" ليصير هذا المصطلح وصفاً لقبيح ما يلاقيه اليهود من أشكال العنصرية والإقصاء. والحقيقة أن الصهيونية هنا قد أحسنت استغلال معاداة السامية أيما استغلال، فجعلت ممن كان عدوا لها حليفا استراتيجياً؛ وذلك باستغلال اشتراكهما في الأهداف والغايات، فكلاهما -الصهيوني والمعادي للسامية- أرادا خروج اليهود من أوروبا، فتوحدت الأهداف وصار النضال مشتركاً. وبهذه الحيلة قام اليهود بتحويل أعداءهم الدائمين إلى حلفاء استراتيجيين في مشروع الاحتلال الاستيطاني. وهذه الشراكة بين هذين النقيضين أنتجت وقائع عجيبة. فمثلا حين حظر النازيون جميع المنظمات اليهودية في الثلاثينيات أبقوا على تلك التي تحمل أهداف صهيونية وسمحوا لهم برفع علم الأزرق والأبيض مع نجمة داود في وسطه!

    واليهود يرون أن الأفضل أن تظهر حركتهم الصهيونية على أنها ليست إلا رد فعل على مظاهر معاداة السامية التي ضج بها الغرب؛ لأن هذا المبرر يوفر غطاء أخلاقيا لهم في أي مجزرة بشعة يقومون بارتكابها. ولعل تلك المآسِي هي أهم الركائز التي قامت عليها الصهيونية، فحين طرح ثيودر هرتزل السؤال المحوري: "من أين يستمد الصهاينة قوتهم؟" جاءت إجابته مباشرةً: "مأساة اليهود". وإلى يومنا الحالي لا تزال دولة الاحتلال بحاجة إلى معاداة السامية بوصفها أداة لتقريع الغرب وتذكيره بخطيئته والتباكي عليها. 

    ولتتصور عمق هذا المكون في حركة الصهيونية، لابد لك أن تعرف أن بعض المحللين يرون -بالأدلة- أن للصهيونية دورا رئيسياً في إذكاء نار معاداة السامية في الغرب لتأتي بعد ذلك المنظمات الصهيونية وجماعات الضغط (اللوبيات) لتقوم بتهويل تلك المظاهر العدوانية وتقدمها للعالم دليلا على الأذى الدائم الذي يتعرض له اليهود وأحقيتهم بالخلاص من ذلك الأذى بمساعدتهم في بناء وطن على حساب شعب آخر! وهذه اللوبيات هي ما تحدثنا عنه في الشكل الثاني، ولاحظ كيف تتكامل هذه الأشكال سوياً لتشكل الاستثنائية الإسرائيلية. ومن النصوص الدالة على أن للصهيونية أمنيات في خلق مزيد من مظاهر معاداة السامية، لجلب مزيدٍ من الدعم أو غيرها من الأهداف الصهيونية، ما صرح به أحد الصحفيين اليهود في صحيفة ماباي حول استغلال هذه المعاداة لإقناع اليهود أنفسهم بأن خيارهم الأفضل هو الهجرة  إلى فلسطين، حيث يقول:

«لن أخجل من الاعتراف بأنه إذا كان لدي من القوة ما لدي من الإرادة فسوف أختار مجموعة من الشباب الأكفاء، وأرسلهم إلى البلدان التي ينغمس فيها اليهود في شهوات النفس الآثمة، وستكون مهمة هؤلاء الشباب التنكر على أنهم غير يهود وإرهاب اليهود بشعارات معادية للسامية مثل «يهودي دموي»، و«أيها اليهودي اذهب إلى فلسطين» وما شابهها من شعارات؛ أستطيع أن أؤكد أن نتائج تلك الحملة على معدل الهجرة إلى إسرائيل من هذه البلدان ستكون أكبر بعشرة آلاف مرة من النتائج التي حققها آلاف المبعوثين الذين ظلوا لعقود ينعقون بما لا يسمع» . ص234.

الامتداد الخارجي للاستثنائيات 

    من خلال أشكال الاستثنائية الثلاث يمكن النظر إلى أن الداعمين الأساسيين للصهيونية هم ثلاثة أصناف، ينبث كل واحد منهم عن شكل من أشكال الاستثنائية: الصنف الأول هو الغرب المسيحي الذي يؤمن باجتماع اليهود في أرض الميعاد لتحقيق رؤية نهاية العالم في التصور البروتستانتي، وهو ما ينبثق عن الشكل الأول: وجود حق إلهي لليهود على هذه الأرض. 

    الصنف الثاني يمثل كل من انتمى إلى الصهيونية من كافة الأجناس، وهؤلاء هم الذين آمنوا بتميز دولة الاحتلال ورأوا أن من واجبهم دعم هذه القوة وتأييدها، ويبرز أثر هؤلاء في المنظمات الصهيونية  واللوبيات التي تشكل سياسات الدول حول العالم. 

    الصنف الثالث يمثل المعادين للسامية وقد بينا فيما سلف كيف تم التزاوج بين هذين العدوين ورأينا المفارقة العجيبة التي حولت العدو إلى صديق،. كما يدخل في هذا الصنف -وإن قلوا أو عدموا- المضللون بحقيقة هذا الكيان والمؤمنون باستمرار مأساة اليهود ومظلوميتهم.

متناقضات نحو بناء الكيان

    حين التأمل في أوجه الاستثنائية السابقة، وجدت أن الحركة الصهيونية صاحبة جلد متلون قادر على التكيف مع الواقع والأفكار السائدة لاستجلاب الدعم والحشد لصالحه، مما أدى إلى خلق هويات متناقضة لهذا الكيان، لا تعبر عن شيئا سوى استجلاب الدعم، وتأمل معي ما يلي: في تارة ما كانت الصهيونية تعبيراً عن الاشتراكية وقيمها استجلابا لدعم السوفييت، وفي تارة أخرى كانت دولة الاحتلال تعبيراً عن الرأسمالية والديموقراطية واليسار الغربي جلبا لدعم آخر. حتى على مستوى الواقع واستعماله وفق ما يستجلب الدعم والتأييد، فحروب دولة الاحتلال مع العرب كانت تستخدم تارة للتعبير عن الهيمنة والقوة والجبروت الإسرائيلي في المنطقة الذي لابد أن تحترم سيادته، وفي تارة أخرى كانت تستعمل للتعبير عن براءة هذه الدولة واستضعاف الآخرين لها، وتسلطهم عليها وحاجتها لحماية الغير. وحين التأمل أكثر في تلك الاستثنائيات ستجد الكثير من تلك المواقف المتلونة التي تعبر عن براغماتية متجذرة قام عليها الكيان، لتصل إلى دولة قامت على المتناقضات! 

استثنائيات عديدة = عين يغفلها المحلل

    الجدير بالذكر أن الكتاب لم يجمع هذه الاستثنائيات على الصورة التي عرضتها فيما سبق، بل نحى منحى آخر أقرب للمنحى التاريخي لدولة الاحتلال وحركته الصهيونية، وفي هذه المراجعة حاولت ضم الأفكار المتقاربة إلى بعضها البعض، وحاولت أن أرى أشكال الاستثنائية وآثرها وأصولها الجامعة، وأن أقرب فكرة الكتاب للقارئ الكريم بعيداً عن التفصيلات التاريخية. 

    ما أود أقوله أنه وبعد كتابتي لهذه الأفكار على هذا النحو، قلت في نفسي: كيف لأمة توفرت لها كل هذه الظروف الاستثنائية ألا تنجح! يروج بين بعض المحللين أو حتى بعض العوام وصف ما قامت به دولة الاحتلال بأنه جهد جبار وعمل متقن جدير بالنجاح، ولكن قد يكون في كثير من تلك الخطابات إغفالا لما عاشته هذه الحركة من ظروف مواتية وفرصٍ ذهبية سهلت الصعود، ولنكون أكثر عدلا فمن الصحيح أنها وفي بعض الأحيان خلقت ظروفها المناسبة وصنعت فرصها بنفسها، إلا أن كل تلك المقومات كان ولابد أن تضع هذه الدولة في مكان أبعد على سلم أهدافها.

    لكن سنة الله الكونية خالدة ببطلان واضمحلال صنيع المفسدين: ﴿فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين﴾ [يونس: ٨١]، وسنته عز وجل باقية بأن لا ثبوت ولا ثمرة صالحة ولا نافعة في كلمة الكفر والعصيان: ﴿ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار﴾ [إبراهيم: ٢٦].

    كما تبقى كلمة الله عز وجل في اليهود هي القول الفصل والملازم لهم على مر الزمان بأنهم أمة ذليلة هينة  ما علت إلا حين رق ديننا وإيماننا وإلا فلا قوة أمام الإيمان: ﴿ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون﴾ [آل عمران: ١١٢]. يقول الطريفي -فرج الله عنه-: 

"ذلّة اليهود دائمة لا يتسلّطون على المسلمين وإن تسلطوا فبإخوانهم المنافقين" 

"كان المنافقون - مع قلتهم - زمن النبي ﷺ سبباً في تأخر النصر على اليهود، واليوم يتأخر النصر أكثر لأن المنافقين أكثر من اليهود ."

    وأختم هذه المراجعة بآخر فقرة نص عليها مؤلفنا المتميز، وفيها خلاصة من الحري العناية والنظر والتأمل فيها، كما أن فيها رؤية مبشرة للأفق القريب، وليعذرني القارئ على طول النقل، ففي نفاسته ما يهون طوله. يقول محمد شهيد علم في آخر فقرة:

"على الرغم من أن التداعيات المحلية لتلاشي دولة إسرائيل ستكون خطيرة، فإن الخسائر الأكثر خطورة للولايات المتحدة ستنبع من تآكل سيطرتها على الدول الغنية بالنفط في خليج فارس سيكون من التهور التنبؤ بخطوط الخريطة الجديدة التي ستظهر في نهاية المطاف في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، ومهما كانت الهياكل الجديدة التي ستظهر فمن المرجح أن تكون هذه التحولات جذرية وعنيفة. من ناحية أخرى سيؤدى التشظي المفروض على العالم الإسلامي إلى خلق مصالح محلية تسعى إلى الحفاظ على الوضع الراهن، وستحدث مواجهات بين هذه المصالح المحلية والحركات الإسلامية التي تسعى إلى إنشاء هياكل أكثر تكاملا عبر العالم الإسلامي الأوسع. ستكون هذه الصراعات مزعزعة للاستقرار بشكل كبير حيث قد تختار الهند والصين وأوروبا وروسيا جانبًا، فكل منهم حريص على استبدال الولايات المتحدة. وبمجرد أن تتخفف القيود الأمريكية الإسرائيلية على المنطقة، فلن يكون من السهل تصميم قيود جديدة مصنوعة في موسكو أو بكين أو بروكسل أو نيودلهي ؛ لم يعد العالم الإسلامي اليوم كما كان عليه خلال الحرب العالمية الأولى، إنه أقل ميلا بشكل ملحوظ للسماح للأجانب بالتخطيط لمصيره ورسم خريطة عالمه." 

    أعتذر إلى القارئ الكريم على طول المراجعة، وأشكره جزيل الشكر على وصوله إلى هذه الأسطر،  وقد حاولت الاختصار قدر المستطاع إلا أنني كنت حريصا على ضم أكبر قدرٍ ممكن من الأفكار والخيوط التي تكشف تلك الاستثنائية، وأتمنى أن تكون هذه المراجعة محفزاً لقراءة الكتاب لمن كان مهتما بما ورد فيه. وأن تكون قد أضافت لكل من يقرأها شيئا ولو بسيطاً من العلم والمعرفة.
الجمعة، ٣ محرّم 1445 هـ، الموافق ٢١ يوليو ٢٠٢٣م. 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب