دراسة في سيارة الأجرة

    الكثير من اللامعين في مختلف العلوم الإنسانية يثبتون أن ما يتم تداوله في أروقة الجامعات وقاعات الدروس من نظريات وتفسيرات حول المجتمعات والنفوس لا يرقى -في كثير من الأحيان- إلى التعبير عن واقع تلك المجتمعات، عدا عن أن يفسر ويكشف دوافع السلوكيات التي يتصرف بها الأفراد. ويزداد عمق هذا الإشكال إذا صدرت تلك الدراسات والنظريات عن مدارس تقوم على رؤى تعارض طبيعة النفس البشرية وتتنكر لشيءٍ من حاجاتها الفطرية. أما إذا صدر الدارس من معرفة قويمة بطبائع النفوس البشرية ونوازعها وما تحتاجه وما تريده، فقد قطع نصف الطريق، ثم يأتي الدور على الأدوات التي يستخلص بها النتائج والخلاصات.

    حسب نظرتي المتواضعة أعتقد أن واحدة من أحرى أدوات البحث في العلوم الإنسانية هي الانخراط في المجتمع والتماس مع أفراده، ويعظم آثر هذه الأداة بسعة التجارب وطول المعايشة مع عوام الناس، لا بقصرها على نخب معينة، أو بالإغراق في سيل النظريات والكتب البعيدة عن الواقع -وما أكثرها في الحقل الإنساني-. 

    واحدة من لحظات الانخراط في المجتمع والتي أحب التأمل فيها، وأعتقد أنها تعبر عن الناس وتكشف عن اهتماماتهم وهمومهم هي اللحظات التي أقضيها في سيارة الأجرة. ومدار هذا التأمل بسيط يتمثل في النظر إلى ما يسمعه السائق، وما يحكيه للركاب وما يشغل باله وكيفية تفاعل الآخرين معه. العجيب أنك إذا أعطيت لهذه اللحظات نصيباً من  الانتباه ستجد فيما يحكيه هؤلاء الأفراد من عوام الناس من الصدق والحكمة وبعد النظر ما قد لا تجده لدى غيرهم من أهل الفلسفة والتحذلق والهذر، وأحسب أن سبب ذلك هو نقاء النفوس وصدقها مع نفسها والآخر، دون اختبائها خلف بعض المخادعات النفسية.

    وعلى عادتي في التأمل ملياً في تلك اللحظات، قبل أيام قليلة ركبت سيارة أجرة، قدرت أن سائقها في العقد الخامس من عمره، كان السائق يستمع لأغنية هالني ما فيها من المعاني، كان المغني يقول بما معناه -لأني لم أحفظ الكلمات ولا أريد أن أحفظها- : أنه لا يهمه في شريكة عمره إلا مظهرها، ولا يهمه جوهرها مهما كان، ويقول بأنه يعلم بأنك ستعنته بالسطحية نظير هذه الفكرة ولكنه لا يهتم لهذا الوصف ولا يرى فيها عيبًا، فالمهم أن يسعد هو بمظهر محبوبته.

    قبل هذا التماس مع هذه الكلمات، كنت أظن أن مقدار الدناءة في فكرة كهذه كبير لدرجة أن من سيعتقدها سيحتفظ بها لنفسه، وسيخجل من التصريح بها على الملأ، عدا عن أن يجعل منها أغنية تُتلقى بالقبول لدى الناس ويطربون لها، ولكن ربما من السذاجة أن أعتقد مثل ذلك في زمن مات فيه الحياء وكُبر عليه أربعا ودفن في مقابر القيم والمروءات، ولا أصدق من النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: 

"إن مما أدرك الناس من كلام النبوة، إذا لم تستحي فافعل ما شئت."*

    بصراحة لا يهمني ذلك السائق وما يعتقده، ولا تهمني تلك الأغنية لذاتها، بقدر ما أرى من خلالهما ما وصل إليها مجتمعنا اليوم من تمجيد للمادة وإغراق في ظواهر الأشياء، حتى وصل به الحال إلى جعلها مقاييس للحكم وتصنيف الناس، والمتأمل في الواقع يرى فشو هذه الظواهر جليًا. ومكمن الخطر في هذه الفكرة أن فيها تنصيبًا لمقاييس خاطئة لإصدار الأحكام واتخاذ القرارات. ويزداد عمق هذه الإشكالية حين تعلم أن من أهم أسباب ضلال الأمم من قبلنا: هو ردهم للحق بمعايير ومقاييس خاطئة، وتأمل معي ما يلي من أسباب رد الحق. 

    قوم نوح ردوا دعوته لأنهم جعلوا معيار التصديق له أن يكون متبعوه من السادة والأشراف، فقالوا: ﴿قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون﴾ [الشعراء: ١١١]. وقوم شعيب ردوا دعوته لأنهم جعلوا معيارهم هو القوة البدنية والوجاهة، فقالوا:﴿..وإنا لنراك فينا ضعيفا..﴾ [هود: ٩١]، وبنو إسرائيل ردوا دعوة طالوت لأنهم جعلوا معيار الحكم هو الفقر والثراء، ﴿..قالوا: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال ..﴾ [البقرة: ٢٤٧].

    على أن المعيار الصحيح الذي يفترض أن يأخذ به في هذه الأمثلة هو قوة الحجة والبرهان، لا سلطة المال أو الجاه أو غير ذلك من المعايير التي توجب الضلال وتورد المهالك. وهذا المعيار الصحيح هو مما يمكن معرفته والكشف عنه إذا نظر الإنسان بعقل وتجرد، لكن الأعجب من ذلك أن الشرع يكشف لنا أنه وفي بعض الأحيان هنالك من المعايير ما لا يمكن ملاحظته ولا معرفته؛ مما يجعل الإنسان عاجزاً عن الحكم، بل هي معايير متروكة لله عز وجل، وتأمل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: 

"رُبَّ أشْعَثَ، مَدْفُوعٍ بالأبْوابِ لو أقْسَمَ علَى اللهِ لأَبَرّهُ."*

    فهو مدفوع بالأبواب لأنه لا قدر ولا حظوة له عند الناس، بل هو محجوب ومطرود عن مجالسهم لحقارته وضعفه في نظرهم، إلا أن هذا الرجل في مقياس الله عز وجل عظيم؛ لا يخيب له رجاء، ولا يرد له دعاء.

    والمتأمل في منهج النبي ﷺ يبصر الكثير من الوقائع التي كان يربي فيها الصحابةَ -رضي الله عنهم- على ألا يحتقروا الناس لضعفهم، بل يعلم الفرد منهم بأنك ولو كنت منصاعا لمعايير حكم صحيحة ظاهرة فإن هناك من المعايير الخفية التي لا تظهر لك مما قد يقلب الصورة الظاهرة، بل ويلفتهم بأن هناك من منازل ومراتب التقوى والعمل الصالح الخفي ما يرفع المرء ويجعله من أولياء الله وصفوة عباده.

     أبرز أشكال اختلال معايير النظر في مجتمعنا اليوم ليست بهذا العمق الذى ربى النبي ﷺ أصحابه على تجاوزه بل هي أوضح من ذلك، وتتجلى في إعلاء شأن المادة والعناية بالظواهر على حساب البواطن، ولك أن تتصور ما أنتجته هذه الأفكار من بيوت خربة تقوم على جمال الصورة وخراب الباطن ودماره،  وما نما من تلك البيوت من أجيال هشة لا تعرف من الدنيا إلا ظاهرها، وحالة الشباب اليوم تكشف عن ذلك بشكل صارخ ومثل الواحد منهم -كما قيل- كمن ينشّ الذباب عن وجهه، والعقارب والحيّات تحت ملابسه!

    بالمقابل تأمل معي وضوح معنى الاهتمام بالباطن وآثره في صلاح الظاهر في نفوس الصحابة في النقل التالي الذي يخط بماء الذهب عن الصحابي الجليل سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه، حيث يقول 

"إن لكل امرئ جوانيا وبرانيا فمن يصلح جوانيه يصلح الله برانيه ومن يفسد جوانيه يفسد الله برانيه."

    أما حول إعلاء شأن المادة وإقحامها في كل شيء، فقد كنت أتأمل في الأيام الأخيرة كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في المعاملات التي لابد للناظر فيها أن يكون مادياً باباً للنظر في البواطن، وذلك حين قال صلى الله عليه وسلم: 

"لا  يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه"* 

فتخيل أن كل معاملة مالية أو عملية بيع أو شراء أو حتى هدية أو صدقة، اكتملت شروطها الشرعية ولم تطب نفس أحد الطرفين بها، كأن تأخذ حياءً؛ كانت معاملة باطلة وفيها شيء من الحرمة، وأعتقد أن معنى كهذا يستحق الوقوف مليًا والتأمل كثيرًا في النموذج الإسلامي الذي سمى بالإنسان وحلق به بعيداً عن مخلفات المادة حتى في أكثر الأشياء مادية. خصوصًا أمام ما نراه اليوم من سرقة واضحة دون مراعاة لرضا الناس أو طيب أنفسهم.

    ختاماً، في هذه الأفكار شيء مما استثير في النفس خلال ربع ساعة جلست فيها في سيارة الأجرة، وفيها تطبيق عملي لاستغلال تلك اللحظات في التأمل في سلوكيات المجتمع والانخراط فيه ومحاولة قراءة دوافعه وما يقوم عليه، ومدى عمق هذه الوسيلة كأداة لتحليل النفوس، وأنا متأكد أن في جعبتكم الكثير من المواقف التي تحصل في سيارة الأجرة وتثير في النفس أفكار عديدة، سأسعد كثيراً بمشاركتكم إياها في التعليقات.

    وأدعوكم إلى أبعد من التأمل خلال تلك اللحظات إلى محاولة التأثير على الأفراد، والإنسان قد يتغير بكلمة يسمعها من شخص لا يعرفه، كل ما عليكم هو تسديد النية ثم اللطف واللين في التعامل، وسلوك أفضل المسالك في إيصال الأفكار، والناس أسرى لمن أخذهم بالحسنى. ورحم الله أحد مشايخنا الأفاضل الذي كان يرى بأن الوقت الذي يقضيه في سيارة الأجرة من صميم أوقات دعوته التي يتحسبها عند الله عز وجل.

الخميس، 15 صفر 1445هـ، الموافق 31 آب 2023م.
نابلس - فلسطين

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب