مصطلح الطهاة

تدور الفكرة في خلدي شهراً كاملاً وأكتبها في آخر أيام الشهر على عجل، من الطريف أن أتعامل مع هذه المدونة ومقالها الشهري على أنه مهمة دراسية أو وظيفية يطالها التسويف والتأجيل إلى آخر اللحظات. وليس السبب في ذلك بغضي لهذا المقال، بل على العكس أحب هذا المقال وأعتقد أنه ما أكتبه هنا باستمرار يساهم ولو قليلاً في تطوير ملكة الكتابة التي أسأل الله عز وجل أن أخذ بناصيتها لأذود بها عن حمى الحق، وأعلي بها الفضيلة وأهتك ستار الرذيلة المختبئة خلف الشعارات الرنانة والعبارات البراقة.
من جهة أخرى فقد أخبرنا أديب الفقهاء وفقيه الأدباء علي الطنطاوي رحمه الله تعالى، أن هذا طبعٌ من طبائعه أيضاً، فهو يحمل هم مقاله الأسبوعي طوال الأسبوع ولا يكتبه! فإذا أزف وقته واقتربت ساعة الصفر، أخذ قلمه وبدأ يكتب ما يخطر في ذهنه وفكره بلا تحضير أو تجهيز مسبق، والطنطاوي لا يحتاج إلى تحضير فهو بحر من بحور العلم. وكثيراً ما تأتي مقالاته بلا خيط ناظم أو حول موضوع محدد لأن ما يكتبه من أفكار أقرب إلى السيل الذي ينسكب من عقله، فتتسرب الفكرة وهي تجر أختها التي تليها، والشيخ رحمه الله كثير الاستطراد والتحليق.
الأمر العجيب أن أكثر من صديق أخبرني بأن قلمي يقارب قلم الطنطاوي، أو أنهم يتذكرون الطنطاوي حين يقرأون ما أنشره، وأنا أشك في أن يكون قلمي مقارباً للطنطاوي رحمه الله، إلا أنني أصارحهم بأني مثله في التسويف والتأجيل، وعلى كل حال فإنه يسعدني أن يتذكر الناس هذا العلم حين يقرأون مقالاتي المتواضعة.
فكرة هذا المقال بدأت معي منذ قرابة ستة شهور، وذلك حين شرعت في عملٍ أرشيفي لوصفات الطبخ التي تعلمناها -وما زلنا نتعلمها- في مطبخ أمي، وكان الهدف من هذا العمل ثلاثة أمور، الأول: أنني أحب الطهي، ولو أني لا أجيده إلا قليلاً، فمن بين كل ثلاثة أكلات أطبخها تنجح واحدة، فتغلب سعادتها الأُخْرَيَيْنِ ، أما الأمر الثاني: أنني وفي كثير من الأيام تجبرني الحياة على خوض غمار حياة العزاب فوالدتي حفظها الله كثيرة السفر، وعازب طباخ خير من ساكنٍ عطال. وثالث هذه الأهداف هو نَفَسُ والدتي المميز في الطهي، ولربما حفل كل فتى بأمه وصنيعها، إلا أنني أعتقد أن لذة الطعام في مطبخ أمي أمر تواتر وأجمع عليه كل الزوار والأصحاب.
وقبل أن أحدثكم عن فكرة العمل الأرشيفي، دعوني أحدثكم عن هواية الطبخ قليلا. أعتقد أن أجمل لحظة يعيشها الطاهي ليست هي اللحظة التي يتذوق فيها طبقاً لذيذا أعده، بل هي اللحظة التي يرى فيها البسمة والنهمة على وجوه ضيوفه أو أحبابه، والحق أنه لحظة تستحق العناء، لأنها تدل على مقدار ما بذله الطاهي في طبقه من الاحسان والاتقان، وأنظر فيما يثمره ذلك في القلب من الراحة والطمأنينة والرضا. ولعل الشريعة قد أرشدت لذلك المعنى وأشارت إليه، ألم ترى إلى إبراهيم عليه السلام حين سارع بجلب العجل السمين المشوي على الرضف إلى ضيوفه حين دخلوا عليه؟ ألم ترى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على إطعام الطعام وإكرام الضيوف وبذل ما تحبه النفوس؟ ولو لم يكن في حسن الإكرام إلا أن يكون سلوكا سلكه الأنبياء ووصية منهم لكفى أن يكون من المعالي التي لابد للمرء من أن يعتنى فيها.
ومن الجميل أيضاً أن هذه المكارم كانت مما شب عليه العرب حتى قبل الإسلام، ومن لطيف نحت الكلمات، أن كلمة "الأدب" التي تدل اليوم على الاستواء النفسي واتزان الأخلاق وتقويم الطباع، اشتقت من معنى حسي هو "الأدب"، فالعرب كانوا يقولون: أدبَ الرجلُ القوم يأدِبُهم، أي : أقام لهم مأدبة. وسرُّ ذلك أن القرى -وهو طعام الضيف- كان عندهم من أعظم المفاخر، وأشرف الطباع فتوسعوا في الكلمة الدالة عليه حتى صارت تدل على استواء الأخلاق وكمالها، ذكر هذا النحت اللطيف الدكتور عادل باناعمة فرج الله عنه. ولتلحظ ربات البيوت أثر هذا المعنى العميق في قلوبهن.
لما بدأت بجمع أرشيف الوصفات، بدأت بالبحث والتنقيب عن كل وصفة وصلت إلينا من والدتي، سواءً كانت مكتوبة أو صوتية، ثم في مرحلة ثانية بدأت أجد بعض الوصفات المسجلة بصوتها أو المكتوبة قد أرسلت من حساب والدي أو أحد إخواني، ثم في مرحلة ثالثة وجدت بعض الوصفات مكتوبة من أخواتي مسندة إلى أمي. ثم في مرحلة رابعة صرت أجد بعض الاختلاف بين الوصفة الواحدة فيما يرسل مسنداً إلى أمي، فيبدأ الترجيح بين هذه المختلفات. فجمعت كل ذلك الشتات وأرشفته في مكان واحد.
الأمر الجميل أن هذه الرحلة من الجمع قد ذكرتني بعلم الحديث -مع فارق التشبيه- وما بذله علماؤنا المتقدمين والمتأخرين من حرص على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يشوبه أو يدخل عليه شيءٌ من الكذب أو التزوير. والحق أن في هذا العلم وشدة حرص العلماء وتحوطهم الشيء الكثير مما يجعل الإنسان يقف مبهوراً أمام عظيم تلك المناهج ومتانتها، ثم ما يجعله فخوراً بذلك الصنيع العلمي الرصين الذي لم تسبق إليه أمة من الأمم، والجدير بالذكر أن مبدأ الاسناد وفكرة توثيق ما يكتب والتي لا يخلو منها بحث علمي معاصر هي فكرة ومبدأ إسلامي خالص، ومنهج قرره الأوائل منذ فجر الإسلام. وما أجمل كلمة الإمام والمحدث الكبير محمد بن سيرين والتي ذكرها مسلم في صحيحه، حيث قال:
"إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم."
وقد كتبت ودعوت سابقاً كل شخص يريد تنمية مهاراته التفكيرية وملكاته النقدية، وأسلوب تعامله مع ما يعايشه من أخبار يومية: أن يدرس علم مصطلح الحديث. لما في هذا العلم من دقائق ومسائل تنمي الحس النقدي لطالب العلم ولما توجده في نفسه من بعد نظر ومعرفة في العلل والخفايا. وفيما يلي سأذكر لكم طرفاً صغيراً من نماذج عظمة ودقة المحدثين رحمهم الله تعالى:
معلوم لديكم أن الأحاديث تتكون من قسمين: إسناد ومتن، والإسناد: هو سلسلة الرواة وأدوات الأداء، والمتن هو ما انتهى إليه السند من كلام. ولكل قسم من القسمين أدوات للفحص والتحقق من صحتهما.
هذا الحديث الأول من صحيح البخاري، والجزء المحدد منه هو متن الحديث، وكل ما قبله هو الإسناد. من طرق دراسة الاسناد: النظر في رجاله، فرواية المجهول أو غير الموثوق، أو غير الضابط ليست كرواية المعروف الثقة الضابط، وكل ذلك مهم للافادة في بيان صحيح الحديث من سقيمه. من الكتب المتخصصة في دراسة الرجال، كتاب تهذيب الكمال في أسماء الرجال للإمام أبو الحجاج المزي، ويقع هذا الكتاب في إحدى طبعاته في خمس وثلاثين مجلد. يحتوي هذا الكتاب على ثمانية آلاف ملف، كل ملف منها يحوي معلومات عن راو من رواة الكتب الستة، والكتب الستة هي ستة مؤلفات في علم الحديث: صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن النسائي وسنن الترمذي وسنن أبي داود وسنن ابن ماجه. جمع المؤلف كل رواة هذه الكتب وأنشئ لكل واحد منهم ملف، كتب فيه اسمه وسيرته، وحاله من حيث الثقة والضعف، وما قيل عنه ومن الذي سَمِع منهم ومن الذين رووا عنه، الأمر الذي يصعب تخيله أنك ستجد بجانب كل اسم من هذه الأسماء مجموعة من الرموز، مثل: (خ م س) وكل رمز من هذه الرموز يخبرك عن المكان الذي ستجد فيه أحاديث هذا الراوي عن ذلك الشيخ، أو أحاديث ذلك الطالب عمن سمع منه، فالرموز السابقة تخبرك بأن أحاديث هذا الراوي موجودة في البخاري ومسلم والنسائي. ولك أن تتصور أنه من الطبيعي أن يبلغ عدد من سمعوا عن راو واحد: ثلاث مائة طالب، أو أن يكون الراوي الواحد سمع من ثلاث مائة شيخ. والأكثر ادهاشا أن كل هذا تم في القرن الثامن الهجري، أي قبل أن توجد كل الحواسيب والخوارزميات التي يمكن أن تسهل مهام الجمع والتصنيف والإحصاء، بل إن هذا الكتاب ليس هو الأول من نوعه فقد سبقه جمع من المحدثين، وأول من ألف في تاريخ الرجال هو الإمام البخاري في القرن الثالث الهجري في كتابه التاريخ الكبير، ولما ألف هذا الكتاب أخذه إسحاق بن راهوية -وهو أحد علماء الحديث- إلى أحد الأمراء وقال له: "أيها الأمير ألا أريك سحراً!" لما في الكتاب من حسن الصنعة وعجيب الدقائق. ولتعلم أن هذه العظمة في هذا العلم لا تمثل إلا جزء من العظمة في علوم الحديث مجتمعة.
سأحدثكم عن نموذج واحد من نماذج الدقة العجيبة الواردة في ترجمة أحد الرواة في كتاب تهذيب الكمال في أسماء الرجال، هذا الراوي اسمه يحيى بن زكريا الوادي، بعدما عرف به الكاتب وحكى عن سيرته وعمن سمع، بدأ بسرد أقوال العلماء فيه، فقال:
"عن يحيى بن معين: كان يحيى بن زكريا كيسا ولا أعلمه أخطأ إلا في حديث واحد، حدث عن سفيان، عن أبي إسحاق - وقال الغلابي عن سفيان عن أبي حصين - ثم اتفقا عن قبيصة بن برمة، قال: قال عبد الله: ما أحب أن يكون عبيدكم مؤذنيكم". وإنما هو عن واصل بن قبيصة."*
العجيب في هذه النقل ليس إثبات موثوقية الراوي، بل في معرفة أنه أخطأ خطأ واحداً، ولو لم يكن منهج المحدثين في النقد والتمحيص دقيقاً لما اكتشفت أخطاء الثقات، فالثقة من السهل أن يخدع الآخرين كونهم سيقبلون كل ما يأتي به، ولكن هذا العلم يخبرك أن كل شيء خاضع للتدقيق، ومنطقياً إذا كانوا قد اكتشفوا أخطاء الثقات فمن باب أولى أنهم أقدر على اكتشاف أخطاء الضعفاء، ويزداد الأمر إدهاشاً حين تراهم قد عرفوا ذلك الخطأ الوحيد بعينه ثم هم أثبتوه ليحذر من الوقوع فيه.
في النقطتين السابقتين تحدثت عن شيء من أوجه النقد في الإسناد، هنا سأذكر لك شيء من أوجه نقد المتن، يقول المحدث طارق عوض الله: "قد يَرْوِي الرَّاوِي الواحدُ حَدِيثَينِ، فَيُعتَبرُ بأحدهما ولا يُعتبرُ بالآخر، وقد يكون الحديثان بإسنادٍ واحدٍ؛ وذلك أنَّه ترجح في أحدهما كونه خطأ فلمْ يُعْتَبر به، ولم يترجح ذلك في الآخر فاعْتُبرَ بهِ." هذا النقل من كتاب لغة المحدث، يخبرنا بأن عمل المحدثين والمحققين أعمق من أن يكون مجرد اختبار ظاهري للأسانيد، بل الأمر أعمق من ذلك، فهم ينظرون إلى الراوية نفسها وينقدونها نقداً ظاهرياً وباطنياً، فيعرضونها على أحاديث الثقات، وعلى أصول الإسلام فإن عارضته وترجح خطؤها بما يوجب الشذوذ والنكارة صارت ليست أهلاً للاحتجاج. وليس الأمر مقصوراً على هذه القرائن بل وإلى غيرها من القرائن التي لا حصر لها، ولهم في ذلك نظر ثاقب ورأي رصين، وفقه كبير، لا يدركه إلا أمثالهم رحمهم الله تبارك وتعالى. وفي هذا الكلام يكشف لنا عن أسلوب من أساليب المحدثين في التحقق من صحة الحديث أو الرواي، وذلك بمعارضته بما هو أرجح منه، أنظر إلى ما ورد عن الإمام المحدث يحيى بن معين في كتاب معرفة الرجال (2 /39)(60):
يقول يحيى بن معين: قال لي إسماعيل بن علية يوما: كيف حديثي؟ قال: قلت: أنت مستقيم الحديث، قال: فقال لي: وكيف علمتم ذاك؟ قلت له: عارضنا بها أحاديث الناس، فرأيناها مستقيمة، قال: فقال: الحمد لله، فلم يزل يقول الحمد لله ويحمد ربه حتى دخل دار بشر بن معروف، أو قال: دار أبي البختري.
وأعتقد أن في هذه النماذج الثلاث كفاية للشخص ليعرف عما في هذا العلوم من دقة وبراعة، وطول نظر وحسن سباكة، ومرادي من ذلك أن تعرف سخافة تلك الدعاوى التي قد تردد على لسان بعض الأغرار من أن حديث رسول الله صلى الله وعليه وسلم لا يثبت! بل إن المرء حين ينظر في صنيع العلماء لا يمكنه إلا أن يجزم بأن ما قالوا عنه صحيحاً فقد تلفظت به شفتا الحبيب صلى الله عليه وسلم، والحق يقال أن كل منكر للحديث ليس له أدنى معرفة بهذا العلم الكبير.
حرصت في النماذج التي أوردتها ان تكون بسيطة سهلة، يفهمها أي قارئ، ولو لم يقرأ أو يعرف شيئا في مصطلح الحديث، فإن كانت واضحة سهلة فالحمد لله على فضله وإحسانه، وإن لم تكن كذلك، فاستغفروا لصاحبكم، ولا تترددوا في السؤال عما أشكل عنكم. وسواء كان لديكم سؤال أم لم يكن فأنا أسعد الناس بتعليقاتكم وانطباعاتكم.
ختاماً، لابد لي في هذا المقام أن أشكر الأب المربي أحمد بن يوسف السيد وأن أسألكم الدعاء له على ما بذله في تبسيط وتسهيل هذا العلم ونشره لطلاب العلم، والحق أني استفدت كثيراً من هذا الرجل في علم الحديث وفي غيره من العلوم، والكثير مما كتبته وأكتبه مستفاد من الشيخ، فجزاه الله عنا كل خير.
نابلس - فلسطين.
الرابع عشر من ربيع الأول لعام 1445هـ.


ماشاءالله
ردحذف