بين أحزاب اليوم وأحزاب الأمس
يفترض أن هذا المقال قد نُشر نهاية الشهر الماضي، فهو مقال شهر كانون الأول، المقال الأخير من مقالات عام 2023م، العام الذي وعدتكم في أوله أن أكتب مقالا شهرياً. مع هذا المقال ينتهي هذا العهد، وأكون قد كتبت خلال هذا العام 13 مقالاً، تنوعت ما بين حديث نفس وذكريات ورحلات وجولات ومراجعات كتب وأيام عشناها ونعيشها مع الحرب المستمرة وأشياء أخرى. أتمنى أن أكون قد أجدت فيما كتبت ورسمت من لوحات فكرية وأدبية، وأن يكون قد كُتب لكلمة موفقة أن تدخل أعماق قلب إنسان صادق. كما أنني أطمع كثيراً بملاحظات وتعليقات من قرأ تلك المقالات أو بعضٍ منها وأرحب بكل الاقتراحات. وبالرغم من أنني انتفعت كثيراً بهذه التجربة إلا أنني سأتوقف قليلاً عن الكتابة، على وعد العودة في فترة قريبة، أتمنى ألا تطول.
والآن ننطلق وإياكم في موضوع هذا المقال وفي ذروة سنام التاريخ.
منذ بداية الأحداث وأهل العلم يوجهون باتجاه التأمل والنظر في أيام النبي وسيرته ﷺ، فحياته ﷺ هي التمثل الحقيقي لما في الكتاب العظيم من معاني الإيمان، وفيما عاشه ﷺ من الابتلاءات والشدائد ما هو سلوى وتربيت على قلوب من بعده من المصابين؛ بل في النظر في قصصهم عبرة وفائدة تعود على الآخر فتثبته لينبت، وتقومه ليستقيم. وهي العبرة والموعظة التي ينتفع فيها أصحاب العقول المستنيرة والأبصار النافذة: ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون﴾ [يوسف: ١١١]
ومن أحرى أحداث السيرة بالتأمل والنظر لما نعايشه اليوم: غزوة أحد وما أنزله الله فيها من قرآن يتلى إلى يوم الساعة في النصف الثاني من سورة ال عمران. وكذلك الحال مع غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق وقد سمى الله تعالى باسمها سورة كاملة في كتابه العظيم. ولا أدل من هذا على مركزيتها وقيمتها في سيرة النبي ﷺ. وإذا تصفحت كتب السيرة ونظرت في وقائع غزوة الخندق فستجد تشابها عجيبا مع أحداث غزة الحبيبة اليوم، فدعونا نبحر قليلاً مع هذه الغزوة وتجلياتها. ولتكن هذه المقالة دعوة للنظر في أحداث السيرة عامة وفي غزوة الأحزاب خاصة لاستلهام الفوائد والعبر منها.
تحزب الأحزاب
تبدأ غزوة الأحزاب بمكيدة يدبرها يهود بني النضير لإغراء قريش وغطفان وغيرها من القبائل العربية لغزو المدينة واستئصال شأفة النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم. ولابد لك أن تستحضر في ذهنك ما تقاسيه غزة من تحزب الأعداء عليها، فليس الاحتلال وحده هو العدو الذي يقف في وجهها، فهناك أعراب خائنون طبعوا وسلموا ودعموا، وجعلوا من بلادهم محطات وقواعد حماية للعدو، وهناك من منع عنها الطعام والشراب والدواء، وهناك من هو من بني جلدتهم ويكيد لهم وينتظر ويرقب اللحظة التي تسقط بها غزة.
خندق الأمس = نفق اليوم
لما علم النبي ﷺ بمكيدة الأحزاب وتجمعهم؛ استشار وقرر مع أصحابه أن يحفروا خندقاً يحمي مدينتهم، فأحسن رسول الله ﷺ الاستعداد وأعد العدة وحفر خندقاً امتد طوله قرابة 5544م، ولله در هذا النبي ﷺ الذي استطاع أن يعلم بالعدو قبل وصوله بل وأن يسبق الغزاة ويكون هو صاحب القرار الأول، ليفجأ العدو بما لا علم له به. ولله در أهل الغزة السائرين على خطى نبيهم ﷺ الذين باغتوا العالم بأسره، وتمترسوا بأنفاقهم وأعدوا العدة لمواجهة عدوهم. الطريف بأن ما حفرته سواعد الأبطال من أنفاق في غزة يشاع بأنه بطول 500 كم وهذا تشابه آخر بين طول خندق النبي ﷺ وبين طول الأنفاق. على أن المهم هنا أن تلحظ حال عباد الله في كل زمان ومكان وهم أصحاب سبق، وأصحاب همة وعزيمة، وأصحاب وعي بما يحاك ضدهم.
الحصار والجوع وقلة الطعام
لما تفاجئ الأحزاب بالخندق المحفور حول المدينة رأوا أن يضربوا حصارا على المدينة، لعلهم يناولون من عزيمة النبي ﷺ وأصحابه، وفعلاً كان ذلك، واشتد الحصار على الناس، وكما في البخاري فإن الناس قد أصابتهم مجاعة، حتى أن الصحابة ربطوا على بطونهم الحجارة من الجوع، ويروى أن النبي ﷺ قد ربط على بطنه الحجرين. وهذه هي حال أهلنا في غزة اليوم، فإن الناس قد أصابتهم مجاعة، وقل الطعام، حتى أن الناس صاروا ينتقون الذرة من بين أعلاف الحيوانات حتى تطحن وتخبز. فكان لهم في رسول الله ﷺ وأصحابه أسوة في الابتلاء، لكن قدر الله أن مع العسر يسرا، فقد كتب الله للنبي ﷺ ومن معه البركة في قليل طعامهم، وهذا هو ما يحكيه لنا أهل غزة عن بركة الرغيف الواحد، فالله يبارك لعباده في قليلهم، ويجبر النقص برحمته ومنته.
زيغ الأبصار وبلوغ القلوب الحناجر
لم يكن ذلك الابتلاء على النبي ﷺ وأصحابه مادياً فقط تمثل في قلة الزاد، بل كان في جوهره خوفاً اعتلج قلوب الناس، ولا أبلغ من وصف الله عز وجل لمّا قال عن حالهم: ﴿إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا﴾ [الأحزاب: ١٠-١١] وهذا هو حال أهلنا في غزة فقد بلغت قلوبهم حناجرهم وزلزلت أفئدتهم من بطش عدو الله وعدوهم، وذهبت ظنون الناس كل مذهب، فمنهم من قال انتهت غزة، ومنهم من قال لا تسكن غزة أبداً، ومنهم من قال لا طاقة لنا اليوم بيهود، ومنهم من اطمأن بوعد الله وقال: هذا ما وعدنا الله ورسوله.
برد الشتاء = من جند الله ضد الأعداء
من عجيب تشابهات الأيام أن غزوة الخندق كانت في أيام باردة شديدة على النبي ﷺ وأصحابه، حتى أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وأرضاه كان فيما رواه في قصته المشهورة في آخر أيام الحصار أنه قال: "وأخذتنا ريح شديدة وقر" وهو البرد القارس الذي يجعل الإنسان يقرقر بأسنانه، وكذلك الحال مع أهلنا في غزة فقد أشتد البرد ومطر الشتاء عليهم، بل إن الأرصاد تخبر باشتداد المنخفض في قادم الأيام، ولكننا نقول أن أبشروا واستبشروا فإن في هذا البرد والمطر خير لكم وعار لعدوكم، فبه رحمه الله التي ينشرها على عباده، وبه نقمة الله التي يعطل بها آليات أعدائه، ويقذف في قلوبهم وهنا وبرداً. وهذه جند من جند الله التي هزمت الأحزاب الأولى، أفتعجز عن الأحزاب الثانية والثالثة والعاشرة؟ لا بأمر الله ومشيئته.
المعنويات = ميدان المعركة الحقيقي
كان النبي ﷺ يعلم بأن الميدان الحقيقي للمعركة هو في نفوس أصحابه، فإذا قويت قلوبهم وعزائمهم استطاعوا أن يحاربوا أكبر الجيوش، وأن يصمدوا على أطول حصار، فلهذا ومن الساعات الأولى في حفر الخندق حرص النبي ﷺ على ذلك فكان ينشد لهم:
"اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينافأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقيناإن الألى قد بغوا علينا ... وإن أرادوا فتنة أبينا"*
وكان يذكرهم بالآخرة حين يرى ما بهم من النصب والجوع فيقول:
"اللهم إن العيش عيش الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجرة"
فيرد الصحابة رضي الله عنهم مجيبين:
"نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا"*
ولما شك النبي ﷺ بغدر يهود بني قريظة وأرسل سعد بن معاذ وسعد بن عبادة ليحضرا الخبر، أمرهما بألا يعلنا أمر خيانتهم بين المسلمين إذا كانوا قد خانوا فعلاً، بل يخبروه وحده، فلما علم بخيانتهم، قال بأعلى صوته: "الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين!"* حتى لا يفت ذلك في عضدهم. يربينا النبي ﷺ على أن ميدان المعنويات من أهم الميادين التي لابد ألا نغلب فيها، فوهن القلب موجب لوهن الجسد مما يؤدي إلى الخسارة أمام أضعف الجيوش، وهذه رسالة لنا أن نذيع البشرى، وأن نحرص على غرس الأمل والتفاؤل في نفوس أهلنا في غزة وفي نفوس الناس كافة.
غدر القريب
ولتلحظ معي غدر القريب -يهود بني قريظة- الذين رجا الناس أن يقوموا بعهدهم الذين قطعوه للنبي ﷺ بالنصرة والمقاتلة معه إذا دخلت عليهم المدينة من أقطارها، فلما غدروا ظن المنافقون ومرضى القلوب أن في انصرافهم خسرانا للمسلمين، وهكذا الحال مع أهلنا في غزة فقد خذلهم القريب قبل البعيد، وظن من ظن أن في ذلك نهاية لغزة، ولكن الله فوق كل ذلك، وسيدبر لعباده ما يسؤون به وجوه أعداءه.
تمايز الصفوف
كان من بركات الأحزاب أن كشف الله عن المنافقين المعوقين الذين تجلت في هذه الغزوة واحدة من أبرز صفاتهم حين القتال والبأس، وهي الشح، وأعني الشح بالنفس، الذي يدفع للهلع والفرار من الموت، لما في النفس من الجبن وتمني البقاء في البدو بعيداً عن القتال. وقد كشف الله لنا في أحداث غزة كثيراً ممن هم على هذه الشاكلة ممن كانوا أحرص الناس على حياة، ممن يخافون بطشة الاحتلال ولا يخافون رب الاحتلال، فميز الله لنا في هذه الأيام صفوف الناس وكتب لمن كتب الصف الأول في نصرة الله، وكتب لمن كتب التخلف والتأخر. ولا يكون هذا التمحيص والتطهير للصفوف إلا بالابتلاء، فإذا تمحصت استحق أهل الإيمان نصر ربهم، واستحق أهل النفاق والخذلان وعيد ربهم.
ورأينا بيننا أهل اليقين القائلين بقول سلفهم من الصحابة رضي الله عنهم: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليماً. هذا ما قاله الصحابة لما اشتد البأس عليهم فتذكروا قول الله تعالى الذي نزل عليهم قبل أربع سنوات من يوم الخندق: ﴿أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب﴾ [البقرة: ٢١٤] فلما زُلزلت قلوبهم وذاقوا البأساء والضراء، علموا يقيناً أن نصر الله قريب. وهذا أملنا بالله، بقرب زوال هذه الغمة وكشف الكربة، فقد زُلزلت القلوب ولاقى أهلنا هناك ما لاقوه.
بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى
من أهم الأسباب التي ساهمت في هزيمة الأحزاب ورد كيدهم في نحرهم ذلك التنازع الذي وقع بينهم، حين لم يأمن كل طرف من الأطراف الطرف الآخر، ولك أن تعلم أن السبب الرئيسي في ذلك التنازع هو شخص واحد لا تعلم له في السيرة ذكراً إلا في هذا الموقف، اسمه نعيم بن مسعود، أسلم خلال الحرب فأمره النبي ﷺ بكتم أمر إسلامه وأن يُخذِل عن المسلمين ما استطاع، فتنقل بين كل حزب من الأحزاب مشعلاً بينهم فتيل فتنة كان من نتائجه أن رد الله الأحزاب بغيظهم لم ينالوا خيرا. فلا يستقلن امرؤ موقفاً له في نصرة الحق، سواء في الإعلام أو المقاطعة أو غرس بذور الوعي، أو أي مكانٍ آخر، وليعلم الجميع أن الرجل الواحد ذي القلب الصادق يفعل الكثير إذا بذل ما عليه وطلب معية الله وبركته. ومن التشابهات أن الكيان اليوم يشهد أكبر مراحل تفككه داخلياً وتشرذم أطرافه، ويشهد اشتداد الخصومات بين يمينه ويساره، ونسأل المولى عز وجل أن يذكي نار حربهم وأن يحرقهم بقبيح أعمالهم.
مفصلية الأحزاب والطوفان
كانت غزوة الأحزاب مفصلية في تاريخ السيرة المطهرة، فبعدها بدأت مرحلة جديدة من مراحل الدعوة، فبعد هذه الغزوة قال النبي ﷺ: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا، نحن نسير إليهم."* فميزان القوة تحول، ونحن نتفاءل بنصر الله ونستبشر بسيرة نبيه ﷺ ونسأل الله أن تكون هذه الأيام هي خاتمة غزو اليهود والغرب والعرب الطغاة لنا، وأن تكون أيام الأمة القادمة أيام نصر وتمكين فيفتح الله بنا فلسطين والشام وكل بلاد الإسلام.
مداهمة التتار لأرض المسلمين وشيخ الإسلام
من عجائب تاريخنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حوصر مع المسلمين في الشام لما غزتها الدولة الإلخانية بمعية التتار وتحزب الأحزاب عليهم من عرب وترك وفرس، ووقع لهم من قلة الطعام والبرد، واشتداد الحال ما وقع للأحزاب أولا، وما يقع لأهل غزة اليوم، فكتب الشيخ في تلك الحادثة رسالة بعنوان: "رسالة ابن تيمية عند مداهمة التتار لأرض المسلمين" وهي رسالة نافعة أنصح وأوجه لقراءتها، وقد شرحها الشيخ عبدالله العجيري في مجلس مطول على اليوتيوب، وبذرة هذا المقال قد نمت من هناك، واستفدت من تلك المادة كثيراً.
"فإن هذه الحادثة كان فيها أمور عظيمة جازت حد القياس، وخرجت عن سنن العادة، وظهر لكل ذي عقل من تأييد الله لهذا الدين، وعنايته بهذه الأمة، وحفظه للأرض التي بارك فيها للعالمين - بعد أن كاد الإسلام أن ينثلم وكر العدو كرة فلم يلو عن،، وخذل الناصرون فلم يلووا على، وتحير السائرون فلم يدروا من..، ولا إلى..، وانقطعت الأسباب الظاهرة، وأهطعت الأحزاب القاهرة وانصرفت الفئة الناصرة، وتخاذلت القلوب المتناصرة، وثبتت الفئة الناصرة، وأيقنت بالنصر القلوب الطاهرة، واستنجزت من الله وعده العصابة المنصورة الظاهرة، ففتح الله أبواب سمواته لجنوده القاهرة، وأظهر على الحق آياته الباهرة، وأقام عمود الكتاب بعد ميله، وثبت لواء الدين بقوته وحوله، وأرغم معاطس أهل الكفر والنفاق، وجعل ذلك آية للمؤمنين إلى يوم التلاق، فالله يتم هذه النعمة بجمع قلوب أهل الأيمان على جهاد أهل الطغيان، ويجعل هذه المنة الجسيمة مبدأ لكل منحة كريمة وأساسا لإقامة الدعوة النبوية القويمة، ويشفي صدور المؤمنين من أعاديهم، ويمكنهم من دانيهم وقاصيهم."
ختاماً، فإن الأحزاب ومداهمة التتار والتاريخ كله يعلمنا أن أيام البلاء مهما طالت فإلى زوال، وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب، وأنه لا ينبغى للمسلم أن يسيء الظن بربه حال الشدائد والمحن، بل يحسن الظن ويستبشر أبداً، وذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة ويقين وتوكل وعمل بقدر الوسع والله غالب على أمره والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين.


تعليقات
إرسال تعليق