إطلالة على رحلة المسيري الفكرية
أقر بأنني أشعر بنشوة الإنجاز بعد إتمامي الكتاب، ولكني في نفس الوقت حزين على فراقه، لأن الكتاب أخذني معه برحلته الطويلة، حتى أن الكتاب سافر معي وعاش معي أيامًا كثيرة، فصار له في قلبي مكانًا. بدأت به منذ أكثر من سنة ونصفٍ في مكتبة مازارين في باريس، القريبة من جسر الفنون على نهر السين، وها أنا اليوم أُختم آخر صفحاته في مسجد رفيديا القديم في نابلس الفلسطينية.
وربما الأمر تجاوز مجرد حب الكتاب، بل امتد إلى الكاتب، رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى. أعتقد أنني فهمت شخصيته، عرفت مفضلاته، حتى أسلوبه صرت أتخيله وأشعر بأني أعرفه، وكذلك نكاته وأسلوبه الطريف، لاسيما أنني استمعت قبل الكتاب إلى سلسلته منهجية التعامل مع الفكر الغربي، وهي مدخل ممتاز ومهيئ إلى الكتاب.
حجم الرحلة كبير، وحجم الصفحات كبير وعددها كثير، وما مرّ به الكاتب من أفكار شيء أوسع من أن يُحصر أو يُحد، بل إنه أتى بكل ما ألفه ووضع خلاصاته هنا، ومجموع ما استفدته واسع كذلك، لكنني سأمر فيما يلي على بعض الأفكار والنقاط التي لامستني واستفدت منها:
- مقدار التلاقي الإنساني ما بين ما هو واقعي وشخصي وبين ما هو فكري ومعرفي، وكيف أن الأول يؤثر في الثاني ويولد من خلاله الكثير من المتغيرات، لربما قبل المرور على هذه السيرة، لتوهمت وجود الموضوعية في نفسي أو نفس كل باحث يكتب في عالم الأفكار، إلا أنني بعد هذه السيرة رأيت أن الأثر الذي تتركه الأحداث الشخصية أعمق أثرًا وأبعد غورًا، ولو ادعى بعض الكتّاب موضوعيتهم المطلقة، فالأصل أن يتعامل مع هذه الثنائية بشيء من التصالح.
- حديثه في بداية الكتاب عن المجتمع الدمنهوري التراحمي ومقارنته بالمجتمع التعاقدي الأمريكي الذي عاش فيه فيما بعد؛ حلل لي الكثير من الظواهر التي لربما كنا نراها في الغرب ولا نفهم حقيقتها. والحق أن هذا التحليل جاء في وقته المناسب، فكنت في بداية أيام غربتي في أوروبا، حتى أن ذلك التحليل حرّكني لكتابة مقال: غربة دون غربة.
- إن الحركة النسوية اليوم هي من أبرز التحديات التي تواجه المجتمع، وحين تقرأ تفكيك المسيري لهذه الظاهرة، وتفريقه ما بين حركة تحرير المرأة لأجل المجتمع وحركة التمركز حول الأنثى، بل وحتى محاولة تفسيرها ضمن الفردوس الأرضي، ومقدار التجني والتطرف الذي وصل بهم في وقت مبكر وقبل سنوات عديدة، يكشف عن وعي عميق ورصد دقيق لهذه الظواهر وتحليل نقدي متجاوز لمن حوله، وهذه الفرادة والتميز سمة أساسية في تفكير وعقلية المسيري، ولاشك أن هذا الذي أسهم في بروز نجمه، ولا أعتقد أن فيمن قبله أو من بعده مفكر أجاد التفكيك والتأسيس للأفكار بالحد الذي يسمح للمفكر بالتنبؤ بسلوك المجتمعات بل والدول. فالمسيري تنبأ بتشريع ممارسة الجنس مع الأطفال وكذلك مع الحيوانات، وتنبأ بحرب ال73 وتنبأ بالانتفاضة قبل حدوثها، بل وتنبأ بأن شعارها سيكون الحجارة. وهذا كله من إفرازات ذلك التفكيك والتأسيس.
- نماذج المسيري التحليلية: وضح في رحلته الفكرية الثلاث نماذج الكبرى التي يعتمد عليها في التحليل والتفكيك في عامة كتاباته وفي الموسوعة بدون شك، وهي: أولاً: الحلولية الكمونية، وهي إرادة الفرد المعاصر في فقدان الهوية والالتحام بالكل والتخلي عن الوعي والمسؤولية الخلقية. وإذا نظرت إلى الكثير من البرامج المدعومة من الخارج، ترى مصطلح "الدمج" بارزًا في عناوين برامجهم، وكأنها دعوات مستمرة وصريحة للذوبان مع الآخر الذي ينشدونه، وفقدان لكل ما يعبر عنا وعن تاريخنا وحضارتنا وديننا، أو جعله محصورًا في حيزات يحددونها. واليوم لا أصرح من الإلحاد تعبيرًا عن هذا النموذج، فالإنسان المعاصر يلحد هربًا من الإيمان الذي حُمل إليه، يهرب من الإنسانية الطبيعية الربانية الفطرية التي فطر الله الناس عليها إلى الحلولية التي يشبه فيها ذلك الآخر.
أما النموذج الثاني فهو العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، وهو تعبير عن السياق الحضاري الذي نعيشه والذي تحكمه القوى الإمبريالية، ويندرج تحت هذا التسليع والهم الاقتصادي والتطرف الاستهلاكي المنشود في كل فرد من أفراد المجتمع، ويظهر هذا النموذج بأشرس تجلياته في النظم القائمة، أما في الناس فتجد العلمانية الجزئية وهي أقرب وأكثر، فالكثير من العلمانيين يبقي من الأخلاق والقيم موجودًا في حياته ولا ينزع قداستها، فهو علماني فكريًا، متدين -ربما- سلوكيًا، وذلك جزءٌ من إدراكهم لتطرف العلمانية ونزعتها التي تهضم الروح وتحد من العالم وتحصره في حيز المادة.
أما النموذج الثالث فهو الجماعات الوظيفية، وهي الجماعة التعاقدية التي تمت حوسلتها "تحويلها إلى وسيلة" في يد المجتمع، وقد يحتاج إليها للقيام ببعض المهن الاحترافية التي تحتاج مختصين ماهرين أو بعض المهن الدنيئة كالبغاء والربا، بل وربما بسبب حاجة النخب الحاكمة لمن ينفذ مخططاتها بولاء أعمى. وقد تجلى المسيري حين تحدث عن الوافدين في بلاد الخليج كجماعات وظيفية يستغنى عنها ولا ينظر إليها إلا بنظر الآلة المعزولة عن الجانب الإنساني، وأعتقد أن هذا الجزء من التحليل والتطبيق للنموذج قد لامسني لأني عشته في السعودية. وحلل المسيري الدولة الصهيونية على ضوء نموذج الجماعة الوظيفية، فقد أسسها الغرب لتقوم بوظيفة محددة، وهي كذلك دولة منعزلة عن محيطها كما هي الجماعات الوظيفية، وقد بلغ ذروة الإبداع حين عقد المقارنة ووجه الشبه بين الدولة الصهيونية وتلك القلعة التي كان يسكنها اليهود في بولندا، فوظفهم البولنديون النبلاء ليجبوا إليهم الضرائب من الشعب وليقمعوهم! وهي مقارنة فريدة ينصح بالرجوع إليها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المقارنة التي عقدها بين حركات التمركز حول الإنثى وبين الدولة الصهيونية، فكلاهما تعبير عن حالة ثورية، وكلاهما متمركز حول ذاته ويرى نفسه مركزًا للكون، وكلاهما ينظر للعالم بناءً على ثنائية: يهود/أغيار، رجال/نساء، وكلاهما يزعم التفرد المفضي إلى الأحقية المطلقة بكل شيء، ثم إن كل هذا يدل على أن الحركتين ليستا إلا إفرازًا من إفرازات النموذج الدارويني الصراعي الفلسفي -البقاء للأقوى-.
- من ثمار فهم واستيعاب هذه النماذج التحليلية التفكيكية والتأسيسية، فهم الكثير من الأمور في حياة المسيري، ومن ذلك علاقة أكاديمي في مجال الأدب الإنجليزي الرومانتيكي بالبحث في الحركة الصهيونية والدولة اليهودية وما إلى ذلك، فحقيقة الأمر أن النماذج التي اعتمد عليها الكاتب في بناء رسالته الدكتوراه هي نواة النماذج التحليلية التي تطورت وآلت إلى ما آلت إليه فيما بعد، وكتب من خلالها الموسوعة، درة أعماله ونتاجه الذي يفاخر به، والتي تفرغ لها ربعًا من القرن بين المكتبات والأوراق والباحثين. وأمر آخر يميز هذه السيرة، ذاك أن التأمل في خطها الزمني يريك شيئًا من تغييرات ومراحل المؤلف الفكرية وكيف تكونت.
- كنت مهتمًا قبل الشروع في الكتاب بأن أكتشف من خلاله عن الذي حول المسيري من الرؤية المادية إلى رحابة الإيمان، ولعل في حديثه عن هذا الأمر نفعًا وفائدة أنصح بالرجوع إليها، إلا أنني أرصد مع المسيري وغيره، أن نور الهداية لم يكن له أن يبزغ في قلوبهم إلا حين عاينوا ظلام المادية المعاصرة والإمبريالية القاسية بأعينهم.
- أتذكر أنني لما قرأت كتاب نظام التفاهة للكاتب الكندي آلان دونو، طرت فرحًا بالأفكار التي فيه، وأعجبني وراق لي ذلك النقد العميق للنظام الأكاديمي الذي يشهد الناس شيئًا من رداءته وقلة فعاليته، الأمر الذي اكتشفته أن المسيري قد نقد وحلل هذه البيئات الأكاديمية تحليلًا تفكيكيًا قبل ذلك بسنوات، وأجاد في الكشف عن نمطيتها التي لم تعد تُخرج لنا علماء أو مفكرين حقيقيين، بل صارت تُخرج لنا متخصصين في أدق المجالات لا يدركون شيئًا من واقعهم ولا يفهمون شيئًا من الصورة الكلية للعلم، أي أن تلك الأكاديمية لم تصبح إلا مصنعًا من المدجنين الذين يسيرون حسبما يريد رأس المال، إلا من رحم ربك، والمسيري تجلٍ عظيم لتجاوز تلك القيود وذلك التنميط القاتل للروح الإبداعية وللاتصال الوثيق ما بين دور الباحث في الحياة ودوره في مجتمعه وأفكاره.
- نحت المصطلحات: لاحظ: التمركز حول الأنثى بدلاً من النسوية، والحوسلة تعبيرًا عن التحول إلى وسيلة، الجماعة الوظيفية، النموذج، الجمل الظريف،… وغيرها الكثير من المصطلحات التي نحتها المسيري من بنات أفكاره، هي وبلا شك فعل لغوي إبداعي يشير إلى العمق في فهم الأفكار وحسن التعبير عنها. وليس الأمر مقتصرًا على عالم الأفكار، بل ممتد إلى الواقع وإلى يومنا، فلو لم يخبرنا المسيري أن المسلم الذي يخدم اليهود بنفاقه وطعنه في المقاومة يسمى يهوديًا وظيفيًا، فماذا كنا لنسميه؟
- "سيرة غير ذاتية غير موضوعية": الكتاب مليء بالمواقف والحكايا التي تخفف منه: وهذا ساعدني كثيرًا في أن أبقى مستمرًا مع الكتاب وألا أتركه، ولو كانت مادة الكتاب كلها فكرية فلسفية، لربما لم أكمل نصفه، إلا أن تجاوز الموضوعية أعطى الكتاب روحًا، أما تجاوز الذاتية فقد أعطى الكتاب قيمة فكرية حقيقية أمدت القارئ بالكثير من الخبرات.
- بخصوص غلاف المقال، والذي رسم ما في ذهني حول الكتاب، والأثر الذي تركه، فأشير هنا أن القارئ سيعرف عائلة المسيري بشكل قريب من خلال خوضه هذه الرحلة، فأنا صرت أعرف أبناءه وميولهم وشخصياتهم، بل وتعرفت على شيء من خبرته التربوية معهم، وقد أورد في ذلك تجربته في عالم قصص الأطفال وعن ابتكاره لشخصية الجمل الظريف، وله مؤلفات في عالم قصص الأطفال، يحاول من خلالها بث المفاهيم وتجاوز نمط القصة البدائي -وإن كان هادفًا-. ولهذا ضمنت صورة العائلة في غلاف هذا المقال، جنبًا إلى جنب مع صورته وهو يعمل على الموسوعة، لأنهما مكونان تركا أثرًا في نفسي.
- الكتاب يستحق أن تُعقد حوله مجالس نقاشية، تثور أفكاره وتثريها، لاسيما أن في بعض مواضع الكتاب صعوبة تحتاج إلى فك وتحليل، أعتقد أن النقاشات الجماعية تسهلها، فهذا مقترح للصالونات القرائية، والمجالس الثقافية.
هذا أبرز وأهم ما عَن في خلدي عن الكتاب، وأكتفي إلى هنا، وأشير ختامًا إلى حنقي على دار الشروق؛ نظير الطبعة ذات الجودة المنخفضة، فالصفحات كثيرة وطويلة وفيها محتوى كثيف، وهذا يعني صعوبة حمل الكتاب لمدد طويلة. عمل مثل هذا يستلزم طبعة ذات كعب قوي وجودة مرتفعة حتى يتسنى للقارئ القراءة بما يريحه، أو على الأقل أن يُقسم الكتاب على مجلدين! يؤسفني أن أقول بأن الكتاب انخرق من وسطه معي، أتمنى ألا يحدث هذا معكم حين قراءة الكتاب.
جزاكم الله خيرًا ورحم الله المؤلف.
.jpg)
تعليقات
إرسال تعليق