طالب العلم في زمن الابتلاء

هل حدث معك أن جلست لأيام أمام قنوات الأخبار بسبب فاجعة حدثت مع إخوانك؟ هل جربت أن تمضي عليك الأيام بلا تزود علمي أو إيماني ودون عطاء للآخرين من أهل وأصدقاء وطلاب؟ هل جربت ذلك الشعور وكأنك أسير للماجريات وأحزانها؟

مع شدة ضراوة الحرب وارتفاع أعداد الشهداء، والمشاهد الصعبة التي نراها، يحدث هذا كثيراً وقد يكون ذلك سبباً للقعود عن الطلب والعطاء على صعيد المجالات العلمية والعملية الحياتية وعلى الصعيد الإيماني والتزكوي، وذكرنا في مقال الشهر الماضي قولهم: "هنيئاً لمن لم تعطله الأحزان عن السعي"، ولعمري أنه مقام كبير يعز على أغلب الناس، فأحببت في هذا الشهر أن أخذ القارئ الكريم جولة في أفياء العلماء وحالهم في أزمنة البلاء والفتنة والمحنة، وسأعرض لذلك بنموذجين أشتف منهما معالم حال طالب العلم في أزمنة الابتلاء. 

بداية فلابد لنا أن نوسع مقامات الابتلاء، فقد يكون البلاء فردياً كالسجن والمرض والفقد والفتنة في المال والنفس والعرض، وقد يكون عاماً كالحرب والوباء والاستضعاف والظلم والفتنة العامة. فبعض الناس لا يطرق ذهنه حين الحديث عن الابتلاءات إلا الحروب، والمفهوم أوسع من ذلك، وكلها ابتلاءات قد تقعد المريد عما يريد.

إذا تأملت سير العارفين فستجد تعاملهم مع الابتلاءات متمثلاً بثلاث مقامات:

- الأول: مقام الحفاظ على النفس، وعلى زادها التعبدي ودوام الازدياد منه والارتقاء.

- الثاني: مقام الحفاظ على رسالة العلم على مستوى الطلب والأخذ وعلى مستوى العطاء والنفع المتعدي، ومن صور ذلك تثبيت الناس وتصبيرهم.

- ثالثاً: مقام مشتق عما سبق، وهو من واجبات العلم: وذلك بالتفاعل مع الابتلاء وتوجيه الناس فيما ينبغي ويشرع لهم أمام الابتلاء، وتمكينهم من تحقيق مقام الرد إلى أولي العلم:﴿...ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ...﴾ [النساء: ٨٣].

وستظهر في طيات ما سيأتي انعكاس هذه المقامات، وأثرها في حمل الناس على مقامات الإيمان والجهاد والنصرة لله ولرسوله ﷺ والمسلمين. وهذا ما نفقده اليوم إلا ممن رحم الله.

النموذج الاول: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله

عايش الأئمة الأربعة ألوانا مختلفة من الابتلاء، إلا أنها لم تقعدهم أبداً بل كانت الدافع لهم للاستمرار في الأخذ والعطاء، ولن أفصل في كل واحد منهم، ولكن لنقف سوياً على شيءٍ مما عايشه ومر به الإمام أحمد بن حنبل، إمام أهل السنة والجماعة.

كانت فتنته رحمه الله فتنة طويلة امتدت خمسة عشر عاماً، في أيام المأمون ثم المعتصم ، ثم الواثق بسبب ما يعرف تاريخياً بـ محنة خلق القرآن، فوقف لهم فيها وحيداً كالجبال الرواسي، حتى قال علي بن المديني فيه:

"إن الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة"

أصابه فيها الحبس الطويل والضرب الشديد، والتهديد بالقتل وبسوء العذاب وأليم العقاب، إلا أنه لم يبالي بما كان منهم، فصبر على ذلك وتمسك بما كان عليه من الدين القويم والصراط المستقيم، فكان هو الجماعة وحده فوافق ما حكاه ابن مسعود رضي الله عنه:

"الجماعة ما وافق الحق؛ ولو كنت وحدك"

أمة وحده كإبراهيم عليه السلام، ﴿إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمّةً قانِتًا لِلّهِ حَنيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ﴾ [النحل: ١٢٠].

تحول سجن ابن حنبل وابتلاءه إلى ميدان عمل جديد، فهو الذي كان يصلي بأهل السجن وعليه القيود في رجليه، ويدعوهم ويربي السجناء من حوله بثباته وصدعه بالحق، وردعهم عن الظلم، وبيان موقعهم الخطير في ميزان الشرع.

بل إنه بثباته ثبت الأمة كلها وكان إماما لها. حتى أن بشر بن الحارث وعلي بن المديني ويحيى وغيرهم كانوا يقولون: "تريدون منا أن نقوم مقام الإمام أحمد؟ إن أحمد بن حنبل قام مقام الأنبياء". وما ذلك إلا بصبره على الابتلاء وثباته على الحق ويقينه بنصر الله متمثلاً قول الله عز وجل: ﴿وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون﴾ [السجدة: ٢٤]، والذي تأوله شيخ الإسلام ابن تيمية فقال: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين.

لم يضعفه الابتلاء عن تنفله وزاده التعبدي، ففي سير أعلام النبلاء للذهبي، قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل: "كان أبي يصلي في كل يوم وليلة ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يصلي في كل يوم وليلة مائة وخمسين ركعة، وقد كان قرب من الثمانين، وكان يقرأ في كل يوم سُبْعًا ؛ يختم في كل سبعة أيام، وكانت له ختمة في كل سبع ليال سوى صلاة النهار، وكان ساعة يصلي عشاء الآخرة ينام نومة خفيفة، ثم يقوم إلى الصباح يصلي ويدعو".

وقال أيضًا عن دعائه ودأبه التعبدي: "ربما سمعت أبي في السحر يدعو لأقوام بأسمائهم، وكان يكثر الدعاء ويخفيه، ويصلي بين العشائين، فإذا صلى عشاء الآخرة، ركع ركعات صالحة، ثم يوتر وينام نومة خفيفة، ثم يقوم ويصلي، وكانت قراءته لينة، ربما لم أفهم بعضها، وكان يصوم ويدمن ثم يفطر ما شاء الله، ولا يترك صوم الاثنين والخميس وأيام البيض، فلما رجع من العسكر أدمن الصوم إلى أن مات".

وعبادة إمام أهل السنة والجماعة لم تكن مقتصرةً على الأعمال الظاهرة، بل كان له عناية خاصة بقلبه وحرص تام على تخليصه من آفاته وعوارضه النفسية والدنيونية، ومن ذلك ما حكوه عن زهده إعراضه عن الدنيا وزينتها، وما حكوه عن خشوعه الذي يظهر على حاله وظاهره، قال المروذي: "رأيت أبا عبد الله إذا كان في البيت عامة جلوسه متربعًا خاشعًا، فإذا كان برًا -يعني في خارج بيته- لم يتبين منه شدة خشوع، وكنت أدخل والجزء في يده يقرأ". وكان يقول:

"أنا أفرح إذا لم يكن عندي شيء من الدنيا، ويقول: إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وأيام قلائل"

وحياة الإمام مليئة بشيء من ذلك وأدعوك للغوص في أسبار حياة إمام أهل السنة والجماعة فحياته نبراسٌ لكل مصلح وحامل راية، وصبره وثباته دروس لم تخط بماء الحبر فقط، بل بمداد الدم والعين أيضاً.

من جميل الكتب كتاب المحنة - محنة الإمام أحمد - رواية حنبل بن إسحاق، ومن جميل سلاسل المقالات: سلسلة إمام أهل السنة للشيخ سلمان العودة فرج الله عنه، أما السلاسل الصوتية: سلسلة الإمام أحمد بن حنبل - د. طارق السويدان، ويوجد الكثير غير هذه المواد.

النموذج الثاني شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله:

لشيخ الإسلام رحمه الله الكثير من المواقف والصولات والجولات خلال الابتلاءات التي كانت تحل على الأمة في زمنه وأن نستوعب سيرته وأيامه هنا من المحال إلا أني سأجمل أبرز معالم مواقفه وسأمثل على كل واحد منها فيما يلي:

- المعلم الأول: وقوفه في وجه الظلمة والطغاة وقول كلمة الحق.

وفي هذا المعلم أذكر قصته مع محمود غازان سابع سلاطين الدولة الإلخانية -المشهور بغازان أو قازان- لما غزا الشام سنة 699هـ، فبادر ابن تيمية مع جماعة من العلماء بالذهاب إليه وتكلميه.

فلما حضروا عنده قدم لهم غازان طعاماً فأكلوا منه إلا شيخ الإسلام ابن تيمية، فقيل له: لمَ لا تأكل؟ فقال:

"كيف آكل من طعامكم وكله مما نهبتموه من أغنام المسلمين، وطبختموه بما قطعتموه من أشجارهم."

ولك أن تتصور هذا الخطاب العالي الذي بادر به شيخ الإسلام إلى ذلك القائد القادم لغزو بلاد ولك أن تبحر في معاني الشجاعة والقوة التي حملته على هذا الخطاب. ولم يكتف رحمه الله بهذا، بل قال له أيضا:

"أنت تزعم أنك مسلم ومعك مؤذنون وقاض وإمام وشيخ -على ما بلغنا- فغزوتَنا ودخلتَ بلادنا على ماذا؟ وأبوك وجدك هولاكو كانا كافرين، وما غزوَا بلاد الإسلام بل عاهدا فَوَفَيَا، وأنت عاهدتَ فغدرتَ، وقلتَ فما وَفَيتَ!"

وكان شيخ الإسلام جريئاً قريباً منه بهذا الحوار ويتحدث بصوت شجاع لا صوت خائف أو مرتبك، يُحدِّث غازان بقول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في العدل حتى جثا على ركبتيه وجعل يقترب منه أثناء حديثه حتى كادت ركبتيه تلاصق ركبتي غازان وغازان مُقبل عليه بكليته، مُصغ لما يقول شاخص إليه لا يعرض عنه والسلطان من شدة ما وقع الله له في قلبه من المحبة والهيبة سأل من يخصه من أهل حضرته: من هذا الشيخ؟ وقال ما معناه:

"إني لم أر مثله ولا أثبت قلبا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتني أعظم انقيادا مني لاحد منه."

ثم طلب منه غازان الدعاء له، فقال:

"اللهم إن كنت تعلم أنه -أي غازان- إنما قاتل لتكون كلمة الله هي العليا وجاهد في سبيلك؛ فأن تؤيده وتنصره، وإن كان للملك والدنيا والتكاثر؛ فأن تفعل به وتصنع."

وقازن يؤمن على دعائه، وأصحاب ابن تيمية يجمعون أثوابهم خوفاً من أن يصيبهم دم شيخ الإسلام حين يقتله السلطان بغتة فيتنثار دمه! ولله در هذه النفس الشجاعة والقلب القائم بأوامر الله.

- المعلم الثاني: تثبيثت المسلمين في الابتلاء وتبشيرهم بالنصر والفرج.

وهذا أحد أهم أدوار العالم في الفتن والابتلاءات، وله شواهد كثيرة من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لكل متبصر بهديه وسيرته، فالقلوب بطبعها تهلع وتفزع حين ينزل بها البلاء، وهذا الهلع يذهب بالعقل أحيانا وقد تغيب بسببه معاني الإيمان، فيفر خوفاً من الموت، ويتشاءم ويسيء الظن بربه سبحانه وتعالى؛ وهنا يأتي دور الرموز العلمائية بتصبير الناس وتثبيتهم وحملهم على معاني الإيمان من جهاد وصبر وثبات ومراغمة للأعداء وحسن ظنٍ بالمولى سبحانه.

وشيخ الإسلام سطر في هذا المعلم مواقفاً كثيرة، منها وقفته العظيمة بين الناس مصبراً مثبتاً مبشراً لما حاصر قازان دمشق حصاراً شديداً سنة 700هـ في قدمته الثانية إلى بلاد الشام، ففزع الناس وارتعدوا، وكلهم يفكر بالهروب من الشام ويظنون أن الإسلام فيها إلى زوال، وبعضهم يقول لن تسكن الشام أبداً بعد هذا، فلابد لنا من الرحيل إلى مصر ، وبعضهم يقول حتى مصر لا تؤمن من تمدد جيش قازان بل نرحل إلى اليمن حتى لا تدركنا الدولة الإلخانية ومن خلفها التتار، وهكذا يُبتلى الناس ويظنون بالله الظنونا.

واقرأ معي ما حكاه البرزالي عن حال الناس وموقف شيخ الإسلام بينهم، قال:

"واستهل شهر صفر (سنة ٧٠٠) والأخبار قد وصلت بقصد التتار البلاد، والناس بدمشق مهتمون بأمر الهرب إلى الديار المصرية والكرك وغيرهما، والأراجيف تتبع بعضها بعضًا، والإزعاج وافر، والصدور ضيقة، وغلت الأكرية وبلغ كرى المَحَارَة إلى مصر خمس مائة درهم، وبلغ ثمن الجمل ألف درهم، وثمن الحِمَار خمس مائة درهم، وباع الناس الأمتعة بالثمن البخس من الحلي والنحاس والقماش، وطاشت الألباب، وتحير الناس، وتفرقت القلوب.
وجلس الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية في مكانه بالجامع يوم الاثنين ثاني صفر يفسر آيات الجهاد، ويحض الناس على لقاء العدو، وعلى الغزو والإنفاق في سبيل الله، ويوجه وجوب قتالهم ويقلل عددهم، ويضعف أمرهم، ويوبخ من قَصَد الهرب، ويحضه على إنفاق مقدار ما يخرجه في ذلك الغزو، واستمر يجلس أيامًا متوالية."

- المعلم الثالث: تحريض المؤمنين على الجهاد ومراغمة الأعداء.

وكان للشيخ خطاب مباشر في الحض على الجهاد وبذل النفوس والترغيب فيه، فكان مما كتبه لأهل الشام في نفس تلك السنة وفي نفس هذا الحصار:

"ولا يفوت مثل هذه الغزاة إلا من خسرت تجارته وسفه نفسه وحرم حظا عظيما من الدنيا والآخرة؛ إلا أن يكون ممن عذر الله تعالى كالمريض والفقير والأعمى وغيرهم وإلا فمن كان له مال وهو عاجز ببدنه فليغز بماله. ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من جهز غازيا فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا} ومن كان قادرا ببدنه وهو فقير فليأخذ من أموال المسلمين ما يتجهز به سواء كان المأخوذ زكاة أو صلة أو من بيت المال أو غير ذلك؛ حتى لو كان الرجل قد حصل بيده مال حرام وقد تعذر رده إلى أصحابه لجهله بهم ونحو ذلك أو كان بيده ودائع أو رهون أو عوار قد تعذر معرفة أصحابها فلينفقها في سبيل الله فإن ذلك مصرفها.
ومن كان كثير الذنوب فأعظم دوائه الجهاد ; فإن الله عز وجل يغفر ذنوبه كما أخبر الله في كتابه بقوله سبحانه وتعالى: {يغفر لكم ذنوبكم}. ومن أراد التخلص من الحرام والتوبة ولا يمكن رده إلى أصحابه فلينفقه في سبيل الله عن أصحابه فإن ذلك طريق حسنة إلى خلاصه مع ما يحصل له من أجر الجهاد."

وعاب على الفارين من واجب الثبات والجهاد فرارهم فقال في رسالته في غزو التتار لبلاد الشام: 

"قال الله تعالى: { ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا }، وكان قوم من هؤلاء المذمومين يقولون - والناس مع النبي ﷺ عند سلع داخل الخندق والنساء والصبيان في آطام المدينة -: يا رسول الله إن بيوتنا عورة، أي مكشوفة ليس بينها وبين العدو حائل، ... وقال قتادة: قالوا: بيوتنا مما يلي العدو، فلا نأمن على أهلنا فائذن لنا أن نذهب إليها لحفظ النساء والصبيان، قال الله تعالى: {وما هي بعورة} ؛ لأن الله يحفظها {إن يريدون إلا فرارا}، فهم يقصدون الفرار من الجهاد ويحتجون بحجة العائلة. وهكذا أصاب كثيرا من الناس في هذه الغزاة، صاروا يفرون من الثغر إلى المعاقل والحصون، وإلى الأماكن البعيدة كمصر، ويقولون: ما مقصودنا إلا حفظ العيال، وما يمكن إرسالهم مع غيرنا، وهم يكذبون في ذلك، فقد كان يمكنهم جعلهم في حصن دمشق لو دنا العدو، كما فعل المسلمون على عهد رسول الله ﷺ، وقد كان يمكنهم إرسالهم والمقام للجهاد، فكيف بمن فر بعد إرسال عياله؟ قال الله تعالى: {ولو دخلت عليهم من أقطارها ثم سئلوا الفتنة لاتوها وما تلبثوا بها إلا يسيرا}، فأخبر أنه لو دخلت عليهم المدينة من جوانبها، ثم طلبت منهم الفتنة - وهي الافتتان عن الدين بالكفر أو النفاق - لاعطوا الفتنة، ولجئوها من غير توقف."

- المعلم الرابع: سعيه الدؤوب في استنصار أهل الإسلام لنصرة المستضعفين.

ولم يكتف ابن تيمية في حض الناس على الجهاد والثبات، بل كان مهتما باستنصار المسلمين لهم، فذهب وسافر إلى مصر ليستنصر المماليك واجتمع بجميع أركان الدولة وذكر لهم حاجة المسلمين إلى الإعانة والغوث، وتكلم مع السلطان والنائب والوزير والأمراء الأكابر أهل الحل والعقد في أمر الجهاد وأمر كسر هذا العدو المخذول وقهره والظفر به، وإصلاح أمر الجند وتقوية ضعائفهم، والنظر في أرزاقهم، والعدل في ذلك، وأمرَهم بإنفاق فضول أموالهم في هذا الوجه، وتلا عليهم آية الكنز، وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} الآيات [التوبة: ٣٨]، وحصل بسببه همم علية ونودي بالغزاة.

ولك أن تتأمل ما يُحدث به السلطان هنا أيضاً من معاني عالية وتوبيخ لا يجرؤ عليه إلا عالم رباني قذف الله في قلبه الشجاعة. بل إن السلاطين هم الذين كانوا يخافونه ويرون فيه الهيبة. وقال لهم فيما قال:

"إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمنا له سلطانا يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن... لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه، وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم."

ولم يزل بهم حتى جردت العساكر إلى الشام وقوى جأشهم ، وضمن لهم النصر هذه الكرة، فخرجوا إلى الشام، فلما تواصلت العساكر فرح الناس فرحا شديدا.

ولم يحدث في هذه الحملة على الشام قتال ورحل قازان وجيشه بعد حصار شديد لم يظفروا منه بشيء، قال شيخ الإسلام:

"كان هم هذا العدو فتح الشام والاستيلاء على من بها من المسلمين فردهم الله بغيظهم، حيث أصابهم من الثلج العظيم والبرد الشديد والريح العاصف والجوع المزعج ما الله به عليم."

- المعلم الخامس: جهاده وتسطيره ألواناً من الشجاعة والبطولة.

أما الآن فأخذك إلى الحملة الثالثة التي أتى بها قازان على الشام والتي كانت سنة 702هـ، وفيها كانت هزيمتهم النكراء في وقعة شقحب، ولنأخذ هذه الوقعة مثالاً على جهاد شيخ الإسلام.

فلما علم الشيخ بقدوم العدو وسيره إلى بلاد الشام، مارس دوراً جهادياً كبيراً في رد الأعداء ذاك أنه بادر في التنسيق بين أمراء المناطق لصد العدوان ونقل ذلك البرزالي، فقال:

"وتوجه الشيخ تقي الدِّين ابن تيمية إلى جهة العسكر الواصل من حماة، فأدركه بالقُطَيفة والمَرْج، فاجتمع بهم وأعلمهم بما اتفق عليه رأي الأمراء بدمشق، فوافقوا على ذلك."
ثم انتقل مع الأمراء والناس إلى واجب التبشير وتقوية النفوس كما فعل سابقاً، قال ابن كثير بعد الخبر السابق:
"وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: إنكم في هذه الكرة منصورون على التتار، فيقول له الأمراء: قل إن شاء الله، فيقول: إن شاء الله تحقيقا لا تعليقا، وكان يتأول في ذلك أشياء من كتاب الله، منها قوله تعالى: ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور [الحج : 60 ]."
ولا أطيل عليكم بذكر تفصيلات ما فعله وسطره شيخ الإسلام قبل تلك الوقعة، وألج إلى لحظة دخوله الجيش الإسلامي الذي كان ينتظر العدو، وكان دوره قبل حضور العدو دوراً مركزيا، يقول تلميذه ابن عبد الهادي:
"وفي أول شهر رمضان من سنة اثنتين وسبعمائة، كانت وقعة شقحب المشهورة، وحصل للناس شدة عظيمة، وظهر فيها من كرامات الشيخ، وإجابة دعائه، وعظيم جهاده، وقوة إيمانه، وشدة نصحه للإسلام، وفرط شجاعته، ونهاية كرمه، وغير ذلك من صفاته ما يفوق النعت، ويتجاوز الوصف.
ولقد قرأت بخط بعض أصحابه، وقد ذكر هذه الواقعةَ وكثرةَ مَنْ حضرها مِنْ جيوش المسلمين قال: واتفقت كلمة إجماعهم على تعظيم الشيخ تقي الدين ومحبته، وسماع كلامه، ونصيحته، واتعظوا بمواعظه، وسأله بعضهم مسائل في أمر الدين، ولم يبق من ملوك الشام تركي ولا عربي إلا واجتمع بالشيخ في تلك المدة، واعتقد خيره، وصلاحه، ونُصْحَه لله ولرسوله وللمؤمنين."

والتقى الجيش الإسلامي بجيش التتار في معركة عظيمة كتب الله فيها النصر للإسلام وأهله، قال ابن عبدالهادي عن شيخ الإسلام وعن الطلب المخصوص الذي طلبه من الأمير:

"ولقد أخبرني حاجب من الحجاب الشاميين -أمير من أمرائهم-...، قال: قال لي الشيخ يوم اللقاء، ونحن بمرج الصفر، وقد تراءى الجمعان: يا فلان، أوقفني موقف الموت، قال: فسقته إلى مقابلة العدو، وهم منحدرون كالسيل تلوح أسلحتهم من تحت الغبار المنعقد عليهم ثم قلت له: يا سيدي، هذا موقف الموت، وهذا العدو قد أقبل تحت هذه الغبرة المنعقدة، فدونك وما تريد.
قال: فرفع طرفه إلى السماء، وأشخص بصره، وحرك شفتيه طويلاً، ثم انبعث، وأقدم على القتال، وأما أنا فَخُيِّل إلي أنه دعا عليهم، وأن دعاءه استجيب منه في تلك الساعة.
قال: ثم حال القتال بيننا والالتحام، وما عدت رأيته؛ حتى فتح الله ونصر، وانحاز التتار إلى جبل صغير؛ عصموا نفوسهم به من سيوف المسلمين تلك الساعة، وكان آخر النهار.
قال: وإذا أنا بالشيخ، وأخيه يصيحان بأعلى صوتيهما؛ تحريضاً على القتال، وتخويفاً للناس من الفرار. فقلت: يا سيدي، لك البشارة بالنصر؛ فإنه قد فتح الله، ونصر، وهاهم التتار محصورون بهذا السفح، وفي غد -إن شاء الله تعالى- يؤخذون عن آخرهم. قال: فحمد الله -تعالى- وأثنى عليه بما هو أهله، ودعا لي في ذلك الموطن دعاءاً وجدت بركته في ذلك الوقت وبعده."

وحكي من شجاعات الشيخ الإسلام في تلك الوقعة الشيء الكثير، قال ابن فضل الله:

"وحكيَ عن شجاعتِه في مواقف الحرب نوبةَ شَقْحب، ونوبة كسروان، ما لم يسمع إلَّا عن صناديد الرجال، وأبطال اللقاء، وأحلاس الحرب، تارةً يباشر القتال وتارة يحرّض عليه."

وقال أبو حفص البزار:
"كان من أشجع الناس، وأقواهم قلباً. ما رأيت أحداً أثبت جأشاً منه، ولا أعظم عناءاً في جهاد العدو منه، كان يجاهد في سبيل الله بقلبه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم. وأخبَرَ غيرُ واحدٍ أن الشيخ كان إذا حضر مع عسكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتَهُم، وقطبَ ثباتهم، إنْ رأى من بعضهم هلعاً، أو رِقَّةً، أو جبانةً شَجَّعَه، وثبَّته، وبشره، ووعده بالنصر والظفر والغنيمة، وبيَّن له فضل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السكينة.
وكان إذا ركب الخيل يتَحَنَّك، ويجول في العدو كأعظم الشجعان، ويقوم كأثبت الفرسان، ويكبر تكبيراً أنكى في العدو من كثير من الفتك بهم، ويخوض فيهم خوض رجل لا يخاف الموت."

وبعد فهذه نقولات يسيرة من سيرة عظيمة لعالم داعية مجاهد باللسان والسنان، كان له من المواقف العظام في نصرة الإسلام الشيء الكثير، ويرجع في ذلك إلى سير شيخ الإسلام المعروفة والمشهورة، وللشيخ عبدالله العجيري حفظه الله مقطع جميل يتحدث عن الكتب التي تجمع سيرته رحمه الله. وقرأت حديثا كتاب ابن تيمية والمغول لمحمد براء ياسين وفي هذا الكتاب خصوصاً تماس مع شخصية ابن تيمية العالم المجاهد، وهو تماس جديد لاسيما في الوقت الذي نعيشه اليوم من محنة أهل الإسلام واشتدادا الحاجة إلى العالم الرباني القائم بأمر الله، كما وقف ابن تيمية في المسلمين في تلك الحقبة.

قد يكون إخفاء هذا الجزء من سيرة وجهاد شيخ الإسلام مقصوداً اليوم لاسيما من الذين يدعون انتسابهم إلى ابن تيمية ثم هم هؤلاء يكفرون بالجهاد ويطيعون حاكما أو هوى في النفوس في المنكر قبل المعروف.

وهم الذين يفرقون المسلمين ويحاربون المصلحين -سواء علموا أم لم يعلموا- والشيطان يزين لبعضهم أنهم يدافعون عن الدين وينتصرون للعقيدة. ولله در شيخ الإسلام من عالم لا مثيل له، حاز من جوامع الخير وشمائل الهدى الشيء الكثير حتى قال فيه الذهبي:

"فلو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني ما رأيت مثله، وأنه ما رأى مثل نفسه."

وبعد فالتاريخ مليء بعلمائنا الذين نصروا الله ورسوله ودينه والمستضعفين ووقفوا مواقف مشرفة في الابتلاء وقبله وبعده وفي الرخاء أيضاً.

جزاكم الله خيراً وبارك الله فيكم، أعتذر على التأخير في نشر المقال، نلقاكم الشهر القادم بإذن الله.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب