ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان
في كل يوم تشرق فيه شمس الصباح، يحضرني حال من لا يطلع عليهم الصباح ولا يرون الشمس، وأستحضر قول الحادي على لسانهم:
"طلعَ النهارُ على الدنا ***** وعلي مَا طلعَ النهار
ليل السجون يلفني ***** و تضمني الهممُ الكبارُ"
نعم أعني الأسرى والمعتقلين، ذلك الجرح الصامت في جسد أمتنا المكلومة وكم في هذا الجسد من جراح، إلا أن هذا من الجراح التي تسكب أمامها العبرات، كيف لا وهو جرح غائر تعاني منه الأمة من شرقها إلى غربها، كيف لا وهو جرح يخضب دما وقيحا في كل يوم من الأيام ولا صدى لصوته ولا مجيب لندائه، كيف لا وقد طالت السجون قامات وهامات لو كانوا في أمم آخر لكانوا مناراً للأمة وقادة يرفعون عنها كل ملمة.
هذا الجرح له مكان في كل بلية تعاني منها الأمة: ففي بلادنا المحتلة تطال يد المحتل أحرار بلادي وتسجنهم، وفي بلاد الطغاة العرب تجد سجوناً غيبت الأصوات الحرة والقامات التي تنادي برفع الطغيان وإخراج المسلمين من الظلمات إلى النور، وحتى في بلاد من يدعون الحريات رأينا غونتانامو وغيره من السجون التي أكلت من أجساد أبناء أمتنا.
الأسر في أبسط صوره هو تعبيرٌ عن الهوان، والمسلم بطبعه لا يرضى الهوان ولا يقبل الضيم والذل، فلهذا أولى الإسلام لشأن الأسرى عناية كبرى. وجاء الأمر النبوي في حديث أبو موسى الأشعري في صحيح البخاري، بقوله صلى الله عليه وسلم:
"أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني."*
بل أن الشيخ عبدالعزيز الطريفي -فرج الله عنه- نص في تفسيره على أن الأسير أحق بالزكاة من الفقير ومقدم عليه؛ لأن الأسير يخشى على نفسه ودينه، والفقير يخشى على نفسه فقط، بل نص أنه أولى من جميع الأصناف الثمانية المستحقة للزكاة، وما يخرج من بيت المال وأموال المسلمين. فتخيل كم ينفق المسلمون اليوم من زكاوات في كل سنة؟ فهل فكر أحدهم في بذل هذا المال في فكاك أسرانا ومعتقلينا شرقاً وغربا؟ حسبك أن تعرف أن مسلمي أمريكا وحدها تبلغ زكاتهم في السنة الواحدة مليار وثمان مئة مليون حسبما نصت جامعة انديانا الأمريكية ونقله د. نايف بن نهار. وكثير منها أموال تنفق على على ما دنت أولويته وحقه التأخير، فلو وجهت تلك الأموال بشكل صحيح لكانت سبباً عظيماً في محو كثير من مآسي الأمة، وهذا موضوع آخر يطول وهنا إشارة قصيرة.
لكن الأمر أوسع من ذلك في الإسلام، فليس المال فقط هو الذي يبذل لأجل الأسير، قال جل في علاه: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} [النساء :75]، مما يدل على أن النفوس والمهج تبذل أيضاً في خلاص المسلم من ربقة الهوان ولو كان واحداً، قال الطريفي أيضا:
"والأولى في فكاك الأسير: أن يكون بالقتال إن كان في المسلمين قوة، ولهم منعة؛ لإظهار العزة والقوة، وإن كانت مفاسد القتال في إضعاف المسلمين كبيرة، فيكون بالفداء أسير بأسير، وإن تعذر، فبالمال، وإنما تأخر فكاك الأسير بالمال عن الفكاك بالقتال والفداء؛ لأن المال مع كونه معينا في ظهور وقوة الكفار إلا أنه يطمعهم في المسلمين، فيأسرون منهم ليغنموا فكاكا بالمال، ولكن لو فك الأسير بالقتال والفداء كان في ذلك ظهور للمسلمين وذل للكافرين وردع لهم."
وهذا من ناحية الأسير وإن كان واحداً فما بالك والسجون اليوم تغص بالأسرى، وما بالك أن في السجون أسيرات، ويا حسرتاه على أسيراتنا المعتقلات في سجون الاحتلال وفي سجون الطغيان. وهن أولى بالسعي الدؤوب لتحريرهن ورفع الظلم عنهن؛ لأن الرجل يخشى على دينه ونفسه، والمرأة يخشى على دينها ونفسها وعرضها، وبشكل عام فكلما عظم الأثر على الأسير في نفسه وعلى من خلفه، ففكاكه أوجب وأعظم من الناحية الشرعية. ومقصد ذلك كله العز في الكامن في طبيعة المسلم المضاد للهوان المقترن بالكفر، قال الطريفي - فرج الله عنه-:
"وإنما عظم فكاك الأسير في الإسلام؛ لأن الأسر فيه استضعاف وهوان للمسلمين، وظهور وعز للكافرين، ولو قل الأسرى؛ فالفكاك للأسير حق لعز الأمة أعظم من كونه حقا لفرج الأسير؛ ومن هذا الوجه لم يفرق كثير من العلماء بين قليل الأسرى وكثيرهم؛ لأن الاعتبار في ذلك واحد؛ فقد يستضعف المسلمون ويهانون ويظهر الكفار عليهم العزة بأسير، ولكن إن لم يكن في المسلمين قدرة، وكان القتال لفكاك الأسير يضعفهم حتى يزدادوا هوانا لقوة الكفار عليهم، فيرتفع التكليف عنهم ولكن لا يزول، فإن ملكوا قدرة، نزل الحكم بعد ارتفاعه، وتعين عليهم بعد تخفيفه."
منح في قلب المحنة
الحمدلله على نعمة الإيمان الذي خالط بشاشة قلوب أهل الإيمان، فصاروا يبصرون المنح الربانية في قلب كل بلاء ورغم الجوع والتنكيل والتعذيب، ولا أعذب من كلمة شيخ الإسلام ابن تيمية لما خوف بالسجن والنفي والقتل، فقال:
"ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي في قلبي، وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة."
وبعد اشتداد الحال على أسرانا في سجون الاحتلال خلال العام الماضي، صرنا نسمع منهم كلمات تشبه هذه الكلمات، فبعضهم يخبر بشعور الامتنان لله عز وجل على الابتلاء فصار به لله أقرب وبالقرآن ألصق واستخرج الباري من قلب عبده الضعيف مزيداً من العبوديات التي لا يخبرك عنها المقال واللسان بقدر ما تذوقها قلوب العارفين.
وحدث ولا حرج عن مئات القصص مع القرآن والعيش في جنته ونعيمه، فهو رفيقهم آناء الليل وأطراف النهار، يختمون الختمة تلو الختمة، كنت أسمع عن الإمام الشافعي أنه يختم القرآن في رمضان ستين ختمة، فكنت أستعظم ذلك وأستبعد حصوله في أيامنا، حتى خرج منذ أيام قليلة أحد الإخوان الأحباب من سجون الاحتلال فكان مما حدثني به أنه ختم القرآن في رمضان خمسة وأربعين ختمة، أهدى إحداها إلي! أقول لله دركم لم تغفل قلوبكم عنا وواجبكم علينا أولى ونحن أهل التقصير والتفريط. وسمعنا الكثير عن إيناس الله لهم بالرؤى الصالحة والمنامات وغير ذلك من ألطاف الباري سبحانه، فهنئيا لمن كان مولاه الله ويا خزي من لا مولى له.
خطئية النسيان والغفلة
لكن حال الأمة مع أسراها محزن، فهي لا تعرف الذين غيبتهم السجون، وإن عرفتهم فلا تنزلهم منازلهم ولا تقوم بواجبها عليهم، وأستعير هنا مثالاً مثل به الشيخ إبراهيم السكران، وهو الشيخ سليمان العلوان، يقول الشيخ إبراهيم:
"لو كانَ مِثلُ العَلوان في أُمَّةٍ مِن الأُمم لجعلوه بطلًا قوميًا.. بينما نحنُ نوصِد حولَهُ الأبواب.. ونشتري مُرتزقةَ الإعلامِ ليُشوِّهوا صورته.. يا خيبة السياسة!"
وللشيخ إبراهيم عبارة أخرى يقول فيها:
"حين أقرأ للعلوان، وأرى هذا النبوغ المبكر في حياته، وصدعه بالحق، وتحمله الابتلاء عقداً من السنين.. أقول في نفسي: أي عار على أمة تسجن نابغتها؟"
أقرأ هذه العبارات وأنظر حولي وأقول: من الذي يعرف العلوان اليوم؟ من الذي يعرفه عدا عن أن يجله ويكرمه ويعرف له حقه أو ينصره وهو في سجنه؟ الواقع المرير أن مجتمعاتنا تعيش في غفلتين عن الأسرى كل واحدة منهما أمر من الأخرى، الأولى: أننا لا نعرفهم حقاً، والثانية: أننا ولو عرفناهم ما قدرناهم ولا عرفنا لهم حقهم الذي يجب أن يكون. وخذ ما سلف مثالاً، ثم فتش فيمن حولك من الناس، من الذي يعرف العلوان؟ من قرأ له يوما؟ من الذي يعرف السكران؟ من قرأ له يوما؟من الذي يعرف قائمة أسرانا التي تطول هنا وهناك؟
ولا تحسب أن هذه الغفلة تختص بمجتمع لست منه، فيحق لك أن تجهل علماءه، فالعاقل يعي أننا أمة واحدة، ولابد أن يربي نفسه ومجتمعه على تجاوز المعايير السايسبيكوية في تقييم العلماء والدعاة والنابغين من أبناء أمته، لا أن يغرس مزيداً من عروق القطرية في الأرض.
وعلى كل حال فالمرض مستفحل حتى على المستوى المحلي وهذا التقصير موجود، ففي بلادنا فلسطين علماء في السجون وخارجها لو كانوا في أمة أخرى لرفعوهم وقدروهم وحج الناس إليهم حجاً، لكن الواقع يشي بأننا أسوأ من غيرنا في هذا. وقائمة المنسيين تطول وتقصيرنا يطول والله.
ما هو المطلوب اليوم؟
المطلوب إبقاء قضية الأسرى حية في قلوب الناس، وألا ننساهم كما أراد السجان، وأن نذكر من حولنا بهم وأن نعرف أخبارهم، وما يحاك ضدهم وما يعيشونه من عذابات وآلام ولنسعى جاهدين في كسر قيودهم، وفي تثبيتهم وتصبيرهم، ولنخلف هؤلاء الأسرى في أهاليهم خيراً، ففي حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه في البخاري، قال النبي صلى الله عليه وسلم:
من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا.*
هل تعرف من حولك أسيراً؟
بادر الآن واطمئن على أهله، وطيب خاطرهم وأجعل كلماتك الطيبة أملاً لهم بدنو الفجر وزوال الليل، فالكلمة الطيبة صدقة، وما أعظمها من صدقة حين توافق قلباً محتاجاً لمثبت ومصبر. وكما قال الشيخ الأسير سلمان العودة:
"لم تنتهِ الحكاية ... غداً تطيرُ العصافير"


فتح الله عليك
ردحذف