الحرية بين ثنايا الألم: بنان الطنطاوي وفتح سوريا

هذا المقال هو مراجعة لكتاب "كلمات صغيرة" للشهيدة -بإذن الله- بنان الطنطاوي
"أما التفاؤل، فكيف لا أكون متفائلةً ونورُ الله يعمرُ قلبي، ويضيء عيني ودرْبي، وأنا أُحسُّ وأوقن - مهما ضاقت الدنيا، واشتدَّت الظروف، وازدادت الخطوب - أنَّ الله معنا، يسمعُنا ويرانا، ويعلم ما في قلوبنا، وأنَّ الحقَّ الذي نؤمن به، ونجاهد من أجله، لا بدَّ أن يكون له النصرُ على الباطل، مهما طال الأمد أو تأخر الفرج. وإننا سنفوزُ - إن صَدَقْنا وصبرْنا - بإحدى الحُسنَيين: النصر أو الجنة." 

بهذه الكلمات المتفائلة، كانت تعيش بنان الطنطاوي رحمها الله وتقبلها. لم تكن هذه الروح المتفائلة مجرد كلمات تُقال أو شعارات تُرفع، بل كانت حقيقة راسخة تعيشها بنان، تفيض في مواقفها وسلوكها وكلماتها. كان التفاؤل والأمل جزءً لا يتجزأ من شخصيتها التي جمعت بين القوة والرقة، وبين العزم والإيمان.

أين أنت الآن يا بنان؟ هل تبصرين الآن ما حل بسوريا؟ هل تنظرين إلينا من عليائك وترين الناس يتنشقون الحرية، ويذوقون طعم الكرامة التي طالما ناضلوا من أجلها؟ هل فرحتِ بهلاك الطغاة الذين أذاقوا الناس الظلم والقهر؟ هل رأيت فلول النظام الذي قتل روحك وأخذها من بيننا وهم يهربون ويُقتَلون؟ هل شعرتِ أن روحك قد انتصرت في النهاية؟ أتساءل: هل شفي قلبك وطابت نفسك بهلاكهم؟

أتعلمون؟ أظن أن قلب بنان الطنطاوي كان أكبر من أن يحمل حقدًا أو ضغينة، حتى على من ظلمها وأذاها وأبعدها عن وطنها وأهلها، ثم قتلها بدم بارد. أظن أن قلبها النقي قد عفا عن قاتلها ومشردها وعائلتها في الغربة منذ اللحظة الأولى التي استقرت فيها تلك الرصاصة الغادرة في جسدها في مدينة آخن الألمانية. لا أتصور أن كاتبة هذه الكلمات التي تنبض بالرحمة والرأفة يمكن أن تبغض أحداً، حتى أعداءها. كان ديدنها العفو والتسامح. ألم تقولي:

"لا تقابل الإساءة بالإساءة، ولكن قابلها - وأنت في موضع القُدرة - بالعفو والإحسان؛ فنحن نريد أن نهدي لا أن ننتقم، وأسوتنا في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجزاؤنا كله - إن شاء الله - عند الله.. وحسبنا حسننا ذلك من جزاء."

قرأت كثيراً للشيخ علي الطنطاوي، وأحببت أسلوبه الفريد العميق الذي يجمع بين الأدب الراقي والفكر النير. لكنني عندما قرأت ما خطته أنامل ابنته الشهيدة، شعرت بشيء مختلف تمامًا. رأيت في كلماتها صدقًا استثنائيًا يندر أن نجده في أدبٍ آخر. شعرت أن هذه الكلمات الصغيرة البسيطة تخترق القلب وتلامس أعماقه، لأنها خرجت من قلبٍ صادق، من روحٍ مؤمنة صابرة. إن للكلمات التي تخرج من القلب سحرًا خاصًا، فهي تصل إلى القلوب بلا استئذان.

أبشر يا أديب الفقهاء وفقيه الأدباء، أبشر يا شيخ علي الطنطاوي. لقد كنت الأب الحاني الذي حمل ألم ابنته واستشهادها في قلبه سنوات وسنوات. نعلم أنك فارقت الحياة وهي غصة في قلبك، وألم يعتصر فؤادك كلما تذكرتها. لم تكن بعد استشهادها كما كنت قبلها، ولم يكن قلبك ذاته، بل كان قلبًا جريحًا مثقلًا بالألم والحنين. أبشر فقد هلك الطغاة، وساء صباحهم، وشاهت وجوههم، وعُفِّرت بالتراب.

أما شيخنا الجليل عصام العطار، زوجها المخلص الصابر، لم تزل تربة قبرك رطبة، كنت معنا بالأمس القريب. كنت معنا في هذه الدنيا بكل ألمها وشدتها وظلمها. فليتك كنت معنا اليوم لترى بعينيك أفول هذا النظام الذي ظلمك، وشردك، وأخذ منك أغلى ما لديك، زوجتك الكريمة، الشهيدة بنان. أقول ليتك كنت معنا، لكنني أتذكر حكمة الله، وأدرك أن الله أراد أن يجمعكما أنت ووالدها علي الطنطاوي في دار الخلود، بعيدًا عن هذه الدنيا بأوجاعها وآلامها، ليعظم لكما الجزاء عنده. ألم تقل:

"عندما استُشهِدَت بنانُ الحبيبة.. فالتقت منه ومنِّي إلى الأبد جراحٌ بجراح، ودموعٌ بدموع، وذكرياتٌ بذكريات، ودعَواتٌ بدعَوات. ولم تندمِل قطُّ جراحُ علي الطنطاوي لفَقْد بنان، ولم تندمِل جراحي، ولم يرقأ دمعُه ولم يرقأ دمعي، ولم يسكُت حزنُه ولم يسكُت حزني، إلى أن اختارَه الله إلى جِواره."

أبشر بعوض الله يا شيخ عصام، وأبشر بكرم الله ورحمته.

في أشد أيامك حلكة، وفي أصعب ظروفك، كنت تبصرين الفرج بعين الإيمان، وتثقين بالله أعظم الثقة. كنتِ ترين الأمل في كلمات زوجك، وفي ابتسامة أطفالك، وفي أسرتك الصغيرة التي قلتِ عنها بامتنان:

"ما أروع أن تكون المرأة زوجة أو أماً في أسرة متحابة متعاطفة متينة البنيان، وما أقدرها حين ذلك على مصابرة الشدائد والخطوب، ومواصلة السير على طريق الواجب مهما كانت الظروف والعقبات."

حقًا، كانت هذه الأسرة الصغيرة مشعلًا من نور في وسط ظلام دامس. كانت هذه القلوب المؤمنة المضيئة منارة أمل في بحر من اليأس. صدق الله تعالى: "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل."

لم تمنحك الحياة يا بنان تحقيق أمنيتك بالعودة إلى دمشق، تلك المدينة التي طالما أحببتها، وأن تدفني في ترابها الطاهر بجوار من سبقوك من أهلك وأحبابك في تراب الدحداح أو الباب الصغير - كما كنت تأملين. لكن الله قد اختار لك أن تُدفني مع زوجك في الغربة، كما عشتم معًا في الغربة، وكأن الغربة كانت قدرًا مكتوبًا عليك حتى الممات.

هذه القصة، وهذه الحياة التي عشتِها، هي قصة كثيرين من الذين عاشوا تحت ظلم الطغاة، وعاشوا سنوات الغربة والألم. هي قصص أبناء سوريا وفلسطين ولبنان ومصر والخليج وغيرها من أوطاننا المحتلة من الخليج إلى الخليج، كل أولئك الذين فقدوا أحباءهم، الذين عايشوا ألم الفراق والموت، ولكنهم بقوا صامدين، مؤمنين أن النصر قادم لا محالة.

رحمك الله يا بنان، وجعل مقامك عاليًا في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. 





تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب