فوق السماء وتحت النجوم
بعيدًا عن صخب المدينة وهَرْسِها المستمرِّ للإنسان المعاصر، وفي ليلةٍ من ليالي الشتاءِ الباردة، والسماء فوقنا تزيِّنُها النجوم والكواكب المضيئة، كانت السماء واضحةً جَلِيَّةً بعيدًا عن التلوُّث الضوئيِّ الذي يحجب زينتَها عنَّا في الأيام العادية، تحلَّقنا هناك حول الشيخ، وقد صلَّينا منذ قليل صلاةَ المغرب، وجلسنا معه قبلها ساعاتٍ أُخَر يُحدِّثنا ونحدِّثُه، بعيدين عن هواتفنا وكل ما يسرق صفو أذهاننا.
وفي خضمّ هذا المشهد الهادئ، وبينما نتأمَّل السماء بكل ما فيها من جمال ووضاءة، انتقلت أحاديثنا شيئًا فشيئًا إلى التفكُّر في خلق الله والعوالم التي نراها والتي لا نراها.
فلما رأينا السماء بذلك الموقف الجميل حارت عقولنا لخلق الله سبحانه وتعالى، فانتهز شيخنا الحصيف الفرصة، وأخذ يبحر بنا في عجائب هذه السماء تفكُّرًا وتأمُّلًا،ثم حلَّق بنا ليتأمَّل معنا عجائب العوالم التي نراها والتي لا نراها من خلق الله، وعن عجائب نفوسنا التي بين جنبينا: كيف تتغيَّر وتتقلَّب؛ فتسمو أحيانًا إلى أعلى المراتب، وتسفل أحيانًا أخرى إلى أسفل السافلين. حدَّثنا عن الملائكة الذين لم نرَهم، وعن عجائب خلق الله فيهم، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحياته ومكابدته في سبيل الدعوة، وعن أصحابه رضوان الله عليهم، وعن شوقه إلينا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.
ثم أخذ الشيخ يتلو علينا سور وآيات من القرآن المكي، فتلى النجم وصاد، والحجر، وفاطر وإبراهيم، والذاريات والقمر، والرعد وغيرها من السور ثم تلى من أول النساء حتى بلغ: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا} [النساء: 41]، فقال لنا: وهنا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن مسعود رضي الله عنه: أمسك، وكانت عيناه تذرفان. فأمسك الشيخ.
قرأ الشيخ علينا في ذلك المجلس ما يزيد عن الجزئين من القرآن ذقنا بها لذة القرآن واستشفينا بها من أدوءنا وأمراضنا، لم تشبع قلوبنا من القرآن في ذلك اليوم، بقيت نهمتنا إلى كتاب الله كبيرة. هناك أدركنا كلمة عثمان بن عفان رضي الله عنه حين قال:
"لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم" فضائل الصحابة للإمام أحمد (775).
ولم تكن تلك التلاوة كهذِّ الشِّعر، ولا نثرًا كنثر الدَّقَل (الذي يكون سريعًا متلاحقًا)، بل كانت قراءةً متأنِّيَةً استهدائيَّةً تدبُّريَّةً، تفسِّر الآياتُ فيها بعضَها بعضًا دون حاجةٍ إلى تعليقٍ أو تعقيب؛ فتأتي إلى القلب فتقع في المكان الذي يناسبها، وكأنها أُنزلت لتدخله، وكأن كل آية هي القطعة الأخيرة التي تُكمل أحجية لوحةٍ من قطعٍ مبعثرة، لتظهر بعدها تلك اللوحة بهيَّةً جميلة.
شعرتُ بأننا تعالينا على الدنيا وما فيها من الصغائر، وحلَّقت نفوسُنا فوق السماء، ومن فوقها أنوار الله وزينتُهُ لسمائه. نحلق بقلوبنا وأرواحنا. أتمنى لو أستطيع أن أصف لكم الراحة والطمأنينة والنور الذي في القلب، ولكن الكلمات تقصر عن ذلك، والكاتب ضعيف، والمعاني عاليةٌ سامية.
توافقت القلوب على أن هذا المجلس هو أعظمُ مجلسٍ إيمانيٍّ زادت به القلوب إيمانًا، وذاقَت فيه حلاوةً لم تعهدها من قبل. والعجيب في القرآن يا كرام، أنّ الآيات نفسها مرَّت علينا مرارًا من قبل، بل إن أكثرنا من حفظة كتاب الله؛ فالقرآن ذاته يُتلى، ومع ذلك يختلف أثره من وقتٍ إلى آخر، والقرآن ذاته يتلى على الناس فمنهم من يزداد به إيمانا ومنهم من يزداد به رجساً إلى جرسه!
حكى الله لنا هذا المعنى في سورة التوبة، الفاضحة، فقال عز وجل: ﴿وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون﴾ [التوبة: ١٢٤-١٢٥].
وسياق هذا المعنى في السورة التي فضحت المنافقين يذكرنا بجوهر الخلاف بين المؤمن والمنافق، اللذان تتوافق ظواهرهما وتتباين بواطنهما بونا كبيراً، كما أن تلاوة القرآن في ظاهر الأمر واحدة على المؤمن والمنافق؛ إذ قد تتوافق ظواهرهما، لكنّ بواطنهما تختلف بونًا بعيدًا، فيكون حالهما حين يُتلى القرآن مختلفًا تمامًا بحسب أحوال قلوبهم.
فالمدار كله على القلب الذي تلقَّى المعنى، فهل هُيِّئ تهيئةً إيمانيةً فكمُلت حياتُه ونوره، فأصبح لا يشبع إلا بالقرآن ولا يتغذى إلا بحقائقه ولا يتداوى إلا بأدويته؛ أم كان قلبًا لم يطهره الله تعالى، فظلَّ يتغذَّى على الفاسدات بحسب ما فيه من النجاسة؟ كما قال ابن القيم:
"القلب النجس كالبدن العليل المريض لا تلائمه الأغذية التي تلائم الصحيح" إغاثة اللهفان (1/52).
إن معنى تهئية القلوب بالإيمان ليحسن تلقيها للقرآن هو معنى رباني نبوي كان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه عليه فجاءت شهاداتهم على ذلك:
عن جندب بن عبد الله، قال: "كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن فتيان حزاورة، فتعلمنا الإيمان قبل أن نتعلم القرآن، ثم تعلمنا القرآن، فازددنا به إيمان" رواه ابن ماجه (61)، وصححه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه" (1/37 - 38).
بل إن هذا المعنى موجود في تربية الله سبحانه وتعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في كتاب تعظيم الأول، في المعقد الأول: تطهير وعاء العلم:
"ومثل العلم في القلب كنور المصباح ان صفا زجاجه شعت انواره وان لطخته الاوساخ كسفت انواره. فمن اراد حيازة كالعلم فليزين باطنه ويطهر قلبه من نجاسته. فالعلم جوهر لطيف لا يصلح الا للقلب النظيف... ولما لطهارة القلب من شأن عظيم امر النبي صلى الله عليه وسلم في اول ما امر بقوله تعالى في سورة المدثر وثيابك فطهر في قول من يفسر الثياب بالباطن فهو قول حسن له مأخذ صحيح واذا كنت تستحي من نظر مخلوق مثلك الى وسخ ثوبك فاستحي من نظر الله الى قلبك وفيه احن وبلايا وذنوب وخطايا" كتاب تعظيم العلم ص19-21.
لا أطيل بإيراد الآثار والأدلة؛ فهذا معلومٌ عند أهل العلم، محفوظٌ في مظانِّه، ولكني أعمد هنا إلى التنبيه والتذكير. ومن أهم ذلك ما أورده شيخنا المربي -الشيخ أحمد السيد حفظه الله- في كتابه "المنهاج من ميراث النبوة" في الباب الثاني: "باب تلقي القرآن على منهاج النبوة وتقديم مقصد العمل به وتدبره والاستهداء والاستغناء به وتحكيمه وزيادة الإيمان به على غير ذلك من المقاصد". والمستبصر اليوم لابد أن يرى في هذا دعوةً جادة لتجديد خطاب الناس في تعاملهم مع القرآن وتقريبهم منه.
وليس شيءٌ أعظم من أن تأخذ بقلبك ليذوق حلاوة القرآن؛ فما الحال إذن إذا أخذت بقلبٍ آخر وجعلته يذوق تلك الحلاوة، فينظر للقرآن بتدبُّرٍ واستهداءٍ وفهمٍ يتبعه عمل؟! فأنت -يا أخي المحفِّظ والمعلم في الحلقات- حلِّق بطلابك في سماوات القرآن، واسعَ إلى تعميق العروة بين الطالب الذي بين يديك وبين أنوار الوحي. وقد قال أمير الشعراء أحمد شوقي معاتبًا الأمة على تفريطها في هذا النور:
"بِأَيمانِهِم نورانِ ذِكرٌ وَسُنَّةٌ *** فَما بالُهُم في حالِكِ الظُلُماتِ؟"
وليست المشكلة الرئيسة اليوم في الإقبال على القرآن؛ لأن الإقبال موجودٌ، والحلَق تعج بالطلاب، ولا ينازع مسلمٌ عاقلٌ بحاجته إلى القرآن، ولكنَّ الشيءَ المفقود اليوم هو الطريقة النبوية في التعامل مع كتاب الله سبحانه وتعالى. ومفتاح هذا الباب هو في تلقي القرآن استهداءً وتدبُّرًا وتذكُّرًا ثم فهمًا وعملًا.
وأما سؤالك يا شوقي: فقد رأيتُ جوابه مبكرًا في نصٍّ للشيخ الباحث الجهبذ إبراهيم السكران -فرج الله عنه- حيث قال:
"فلو نجحنا في تعبئة الشباب المسلم للإقبال على القرآن، وتدبر القرآن، ومدارسة معاني القرآن، لتهاوت أمام الشاب المسلم -الباحث عن الحق- كل التحريفات الفكرية المعاصرة ريثما يختم أول «ختمة تدبر»." الطريق إلى القرآن (صـ٤٨)
وأختم هذه المقالة موجهًا وحاثًا على العمل بهذه الوصية، فها هو شهر القرآن مقبل علينا، فاجعل لنفسك وردًا تدبريًا، واستكثر من التدبر كما تستكثر من التلاوة، ولا يقعدنك التدبر عن التلاوة، ولا التلاوة عن التدبر، بل انهَل الخير من كل معين، فأنوار الوحي متسعة، ولا تضيق إلا على النفس الضيقة.
وسأبقى أدرك في كل مرة أستقي فيها من نبع القرآن أن ما عايشناه تلك الليلة، فوق السماء وتحت النجوم، كان نعيمًا لمن ذاق حلاوة القرآن؛ فمن أراد تلك الحلاوة، فليتلقَّ الوحي بقلبه على منهاج النبوة.


وكان شيخنا ابن القيم رضي الله عنه - يقول:
ردحذف"المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله، والرضا بعده فمن توكل على الله قبل الفعل ورضي بالمقضي له بعد الفعل فقد قام بالعبودية. "
ص 398 - كتاب مدارج السالكين
وهذا مما يعين العبد على العمل والاجتهاد والراحة والطمأنينة أن في كل الخطوات عندما ينظر إلى السماء يرزقه الله البصيرة فيبصر قلبه رضا الله ومحبته
صدقتم، جزاكم الله خيراً وبارك الله فيكم على مروركم.
حذف