الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

لما أنهيتُ المرحلة الثانوية وعدت إلى نابلس بعد اثني عشر عامًا قضيتها في السعودية، كان أكثر ما يؤلمني شعور اليُتم الذي خلَّفه فِراقُ بيئة المحاضن التربوية ودروس العلم التي كنتُ منخرطًا فيها حتى أخمص قدميَّ. كنتُ أعلمُ أن مثل هذه المجالس والبيئات التربوية تكاد تكون معدومةً في بلادنا، وإن وُجدت فبصورةٍ ضيقة، كحِلق القرآن الكريم، أو بعض المجالس الوعظية العابرة. أما أن يكون هناك برنامجٌ علميٌّ مستمر، أو محضنٌ تربويٌّ يتولى تنمية قدرات الطالب ومواهبه، ويزرع فيه همَّ الدين وقضايا الأمة، فهذا مما فقدناه وأحسبه قد فقُد هناك أيضاً والله أعلم.

بالرغم من أن حاجة الأمة اليوم حاجة عظيمة لمثل هذه الأماكن التي تصقل بها شخصيات الشباب المسلم وتستخلص بها نخبهم لتكون صالحة في ذاتها مصلحة فيمن حولها، ويحملون هم أمتهم ويبذلون لها الغالي والنفيس من أوقاتهم وأعمارهم، موقنين بنصر الله سائرين على خطى جيل الصحابة رضي الله عنهم، إلا أن واقعنا يشهد غيابًا مؤلمًا لهذه المحاضن، فهي غُيبت وضُيّق عليها ثم لا تسأل عن حال الأمة وحال شبابها، ولِيت شعري ليتنا ندرك ما قاله الشاعر:

"لا يصنع الأبطال إلا .. في مساجدنا الفساح

في روضة القرآن في .. ظل الأحاديث الصحاح

من خان حي على الصلاة .. يخون حي على الكفاح"

ولستُ في مقامِ الحديث التفصيليِّ عن فضل هذه المحاضن وما تخرجه من أجيال متسلحة بالعلم والوعي، قادرة على حمل هموم الدين والدعوة؛ فذلك حديثٌ يطول ويستحق أن يطرح ويناقش ويكتب عنه. لكن مقصودي هنا أن أروي عن الذي انتشلني من غربة الروح بعد عودتي من غربة الأرض، فرغم محاولاتي الكثيرة لتجاوزه وإنشاء بيئة بديلة. كانت تلك المحاولات كلها عطاءً يفتقرُ إلى جانب الطلب، وبقي الحال على ذلك حتى لقيتُ الشيخَ خباب الحمد، فرَّج الله عنه.

وما زلتُ أتذكر جيدًا ذلك اللقاء بعد صلاة الفجر، حين حضرت أول مجلس له في التفسير. خرجتُ من ذلك المجلس وأنا أشعر أنني حضرتُ مجلس علم لم أحضر مثله منذ زمن، وعندها فقط، أدركتُ بعمق معنى كلمة الإمام الشافعي حين قال:

"والله إني لأسمعُ الحرف وإني لأتمنى أن يكونَ جسدي كلّه أذن، ليستمتع جسدي كما تستمتع أُذني".

وليس في هذه الكلمة مبالغة، فالعلم له لذة ذاته، وكلام الشيخ خباب ماتع، مليء بالعلم والنكت والدقائق والشواهد الشعرية التي لا تجدها إلا في بطون الكتب، فكيف وقد جمع الشيخ مع ذلك فقهًا عميقًا في  الآفاق والشرائع والطبائع وتراكيبها، وعنده قدرة عالية على الحوار والإلقاء. وهذه اللذة التي كنا نلمسها في مجالس الشيخ، هي شيء من فرحه هو بالعلم واستمتاعه به، وقد ذكر لنا مرة أنه عاش وسافر وجاء وراح، وذاق كل لذة من لذائذ الدنيا المباحة فلم يجد في قلبه لذة أعظم من لذة العلم.

وارتباط الشيخ بالعلم ارتباطٌ وثيق منذ صغره، فاعتنى به والده فأحسن توجيهه، فحفظ القرآن الكريم على يد والده الشيخ مروان ـ رحمه الله ـ، وحفظ الكثير من المتون العلمية في الفقه وأصوله، والحديث ومصطلحه، وعلم الفرائض، وعلوم القرآن إلى غير ذلك. ودرس على كثير من العلماء الفضلاء، ولازم الشيخ ابن جبرين رحمه الله بضع سنوات. وكان الشيخ يحكي لنا تأثره به في كثير من المرات، وكان يقول عنه: إنه جبلٌ من جبال العلم.

وحُببت إليه القراءة على اللعب واللهو، وأخبرنا مرة بأنه كان في الإجازة الصيفية إذا نزل مع أهله إلى قريتهم بروقين، كان يحبذ أن يمكث على كتبه في بيت جده على أن يخرج للعب واللهو. وهذه النفس المحبة للعلم والشغوفة به منذ طفولة الشيخ، هي التي صنعت منه لاحقًا شخصية فريدة في عطاءاتها الدعوية والفكرية.

وهناك من الشيوخ من تأخذ منه علمًا، ومنهم من تأخذ منه همًّا لدينك وأمّتك، ومنهم من تأخذ منه خلقًا وسَمْتًا، والشيخ -حفظه الله- قد جمع بين أطراف ذلك كله؛ فكنا نأخذ منه العلم، وهو بحرٌ لا أعلم له مثيلًا في العلوم الشرعية في فلسطين، وكثيرًا ما كنتُ آسف على تفريط الشباب -لا سيما الملتزم منهم- في حضور دروس الشيخ والزهد فيها، ولو كان الشيخ في مكان آخر يقدّر العلم والعلماء لاكتظ مسجده بالناس.

وكنا نأخذ منه فقه الواقع بعمق وتبصر؛ إذ كان مطلعًا بشكل واسعٍ على الواقع ومتشعباته، وله قراءات فكرية تمتد إلى مفكري الشرق والغرب على حد سواء. كما كان يملك خبرة كبيرة بالمذاهب الفكرية المعاصرة على اختلافاتها، والجماعات الإسلامية في واقعنا الحالي. وكنا نخوض معه نقاشات تمتد لساعات، يسمع منا ونسمع منه، فيتسع صدره لآرائنا، ويثري عقولنا بأفكاره ورؤاه.

وله مواقف مشهودة في مدافعة الباطل والانخراط في الواقع، فكان -إن لم يكن الأول- من أوائل من تصدوا لفتنة الإسقاط والتشويه التي استهدفت العلماء السابقين من أمثال الإمام أبي حنيفة، والعز بن عبد السلام، والسيوطي وغيرهم، فكتب دفاعًا عنهم، وردَّ على أصحاب تلك الفتنة، وحذّر منهم. وعلى المستوى المحلي، كان على رأس الحربة في مجابهة "سيداو"، حيث كتب بحثًا متكاملًا حول ذلك، موضحًا ما فيها من خطورة على القيم والمجتمع الإسلامي. ولم تقف مواقفه عند هذا الحد، بل كانت له مواقف أخرى كثيرة في نصرة الحق والدفاع عن إخوانه المسلمين والمستضعفين، مما يضيق المقام عن حصره وبيانه.

وكنا نأخذ منه التزكية كذلك؛ إذ كان يحرص أشد الحرص على ألا نغرق في جمود العلم وأخذه بعيدًا عن قلوبنا وترقيقها، ويربينا على أن العلم يُطلب لتلين به القلوب ويرتقى بها في شعب الإيمان. وكثيرًا ما كنا نأتي إليه في درس الفقه أو التفسير، فيطوي الكتب، ويجلس يذكرنا بالله ويعظنا، ويتخولنا بالموعظة بين الأيام كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه. فكان لنا أبًا ناصحًا، ومربيًا حكيمًا، يُعلِّم بالقدوة قبل الكلمة.

وأما على مستوى رسالة الشيخ ومنهجه الإصلاحي، فللشيخ رؤى إصلاحية واضحة تنطلق من مبدأ أن العلم هو الأساس الذي لا بد من إيجاده وتنميته في فلسطين. فقد كان يرى أن العلم يتكامل مع كل واجب من الواجبات، فالإصلاح يحتاج إلى علم، والدعوة تحتاج إلى علم، والوعي يحتاج إلى علم، والجهاد يحتاج إلى علم، والعلم رديف الجهاد، وكل أبواب الدين وعلومه تصب في هدف واحد وهو إقامة دين الله في الأرض.

كان الشيخ يقول لنا إن فلسطين ليست مجرد أرض نضال ورباط، بل هي قبل ذلك أرض علم ومعرفة، أرض خرجت العلماء والفقهاء الذين أخذوا بأيدي الناس نحو الحق والخير. فالعلماء هم الذين يبيّنون للناس دين الله وأحكامه، وهم الذين يحملون على عواتقهم مهمة التربية والتوجيه والتأصيل الشرعي، ويصنعون الجو الإيماني الصحيح في المجتمع. وهذه البيئة العلمية هي التي تبني وعيًا صحيحًا بقضايا الأمة، وتقوّي الشخصية المسلمة لمواجهة الاحتلال والتحديات مهما كانت. وكان يقول إن من أعظم وسائل نصرة القضية الفلسطينية أن يكون لدينا طلاب علم حقيقيون، يبنون وعيهم وفق منهج شرعي مؤصّل، خصوصًا إذا كان ذلك العلم يُطلب على منهاج النبوة؛ فيجمع بين العلم والرسالة، وبين الوعي والعمل.

وكان يذكّرنا دائمًا أن نابلس هي عش العلماء، وأنها عبر التاريخ كانت منارة للعلم والمعرفة، وما زال يحدونا الأمل في أن نعيد لها ذلك اللقب، وأن نحيي في جنباتها مجدها العلمي من جديد. وكان يذكّرنا بأولئك العلماء الأجلاء من فلسطين الذين أضاءوا سماء العلم بعلومهم ومعارفهم، وأسهموا في حفظ التراث الإسلامي ونشره في بلاد الشام وخارجها.

وكان يحلم ويتمنى أن تعود الحالة العلمية في نابلس وفلسطين كلها إلى ما كانت عليه في عصور الازدهار، حين كانت الحلقات العلمية تعج بالطلاب، والمجالس تزدان بمدارسة كتب الحديث والفقه والتفسير. كان يؤكد لنا أن هذا ليس مجرد حلم بعيد المنال، بل واجبٌ علينا أن نجتهد لتحقيقه، وأن نحيي ذلك الإرث العلمي العريق بصدق الهمة.

وقد كرّس الشيخ جزءًا كبيرًا من جهوده لترسيخ هذه الرؤية الإصلاحية من خلال أحاديثه ودروسه وحلقاته العلمية وبرامجه المتنوعة. ومنها برنامج "أعلام الديار المقدسية"، وهو برنامج خفيف لطيف أنصحكم بمتابعته، حيث يروي فيه ميراثًا من العلم والعمل لأولئك الرجال الذين خرجوا من أرض فلسطين، أرض الرباط والعلم، في طلب العلم والدعوة إلى الله. فيستعرض سير علماء فلسطين الذين كانت لهم بصمة واضحة في تاريخ الأمة، من أمثال رجاء بن حيوة والإمام الطبراني وابن قدامة المقدسي والسفاريني وغيرهم من الأعلام.

في مثل هذه الأيام من العام الماضي، كنا مع الشيخ في اعتكاف رمضان، حيث كان لنا الشرف في مرافقة الشيخ ورؤية همته العالية، والشيخ مدرسة في همته في كل شيء، أما في طلب العلم ومدارسته، فنحن نعلم أنه في الأيام العادية يقرأ ويعكف على الكتب الساعات الطوال، لا يفصله عن الكتب شيء، في كل زاوية من مكانه كانت كتبه وأوراقه تنتشر، وكنا نرى كيف أن ورقة الكتاب نفسها تتحول إلى اللون الأزرق من كثرة تعليقاته وحواشيه التي تفيض من قلبه، شواهد على سعيه المتواصل لتحصيل العلم، وكأنها كانت تخبرنا أن العلم ليس مجرد قراءة، بل هو رحلة مستمرة من التفاعل والتأمل والتدبر.

وقد رأينا من همته العالية في العبادة في اعتكاف السنة الماضية، فكان -بالرغم من أنه خرج منذ شهور قليلة من عمليته ولا زال يعاني من آثارها- ذا همة عجيبة. فكنا نتعب قبله، ويقوم ويطيل، ولا نرى منه إلا اشتدادًا وقوة، لا تضعف عزيمته.

وكان من أعظم ما استفدت منه في ذلك الاعتكاف، ملاحظتي لسمته وخلقه وطريقة تعامله مع الناس. فالناس طباعهم تختلف، ومقاماتهم تتفاوت، فمنهم من يسأل بلا أدب أحيانًا، ومنهم من يتدخل فيما لا شأن له به، وآخرون يطرحون أسئلة في غير موضعها. لكن الشيخ كان مدرسة في فهم نفوس الناس، فيخاطب كل شخص بحسب حاله، ويوضح لكل واحد منهم ما يحتاجه بحكمة ورفق.

واستفدت من الشيخ أيضًا في أهمية الحرص على جمع كلمة المسلمين ونبذ ما يفرقهم، وأن هذا من مقاصد الدين التي تُقدم. فكان حريصًا على جمع الكلمة بين المسلمين، سواء كانوا من عوام الناس أو خواصهم. فتراه حليمًا مع الناس وعوامهم، وتراه ناصحًا صادقًا لإخوانه في العمل الإسلامي، مثنيًا عليهم، مقربًا بينهم، محذرًا من مناهج الإسقاط والتشويه والتفريق، وشق وحدة الصف التي ابتلينا بها من بعض الجهال والمتربصين للأمة - والله المستعان.

حركني لكتابة هذه الكلمات عن شيخنا الفاضل شعوري بالواجب تجاهه، وهو الآن يعاني في سجون الاحتلال، حيث -ورغم مرضه وحاجته الملحة للأدوية- يرفض الاحتلال إدخال العلاج له، مما يعرض صحته للخطر ويزيد من معاناته. وقد حكم عليه بالسجن الإداري لستة أشهر، وجدير بالذكر أن هذا ليس سجنه الأول، بل سُجن من قبل، وإن مرضه وزراعة الكبد التي يعاني بسببها ليست إلا نتيجة الظروف الصعبة التي مر بها في اعتقاله الأول. لا تنسوا شيخنا في معتقله، لعل دعواتكم الصادقة تؤنس وحشته وتهون حبسه ومرضه، فهو يستحق منا الدعاء، وهو أقل الواجب، ومقام الشيخ كبير.

فاللهم كن مع شيخنا في محنته، وكن معه في سجنه، واربط على قلبه، وأفرغ عليه صبراً وثباتًا، اللهم واجعل علمه شفيعًا له، وجهده في الدعوة ذخرًا له، وصبره على البلاء شاهدًا له. اللهم ارفع ذكره في الدنيا والآخرة، واكتب له القبول بين عبادك، وأجره على ما أصابه من أذى في سبيلك. اللهم احفظه بحفظك، ورده إلينا سالمًا معافى، واكتب له في قلوب الناس مودةً ورحمةً. اللهم فرّج كرب كل أسير، وفك قيد كل مظلوم، واربط على قلوبهم باليقين والثبات، واكتب لهم الفرج القريب، والنصر المبين. آمين يا رب العالمين.

تعليقات

  1. فك الله قيده و رده سالماً إلى أهله و حفظه من كل مكروه
    نفس حالة الغربة شعرت بها بعد رجوعي من السودان ، و قد كنا اعتدنا على الأندية الصيفية التي كانت تنظمها الجالية الفلسطينية هناك ، لكن محاضرات الشيخ احمد السيد خففت من هذه الغربة ، حفظ الله شيوخنا و علماءنا و فك قيد المأسورين منهم

    ردحذف
    الردود
    1. اللهم آمين آمين. صدقتم فالشيخ أحمد حفظه الله آنس غربة كثير من غرباء الدين، وانتفعنا به كثيراً في تلك الأيام وما زلنا. أسأل الله أن يبارك في علمائنا وشيوخنا االذين يضيئون لنا الطريق.

      حذف
  2. الله يفك قيده ويفرج عنه وينفع المسلمين به

    ردحذف
  3. أحسنت النشر بارك الله فيك

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب