تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب
"إن تدبر أخبار الأنبياء، وأخبار الطغاة، وأخبار الصالحين، في القرآن، ومحاولة تفهم وتحليل الرسالة الضمنية فيها؛ من أعظم مفاتيح الانتفاع بالقرآن." إبراهيم السكران | فوائد منتقاة
مقدمة
حين تحدثت في مقال شهر شباط المعنون بـ "فوق السماء وتحت النجوم" عن التدبر والاستهداء، وصلتني إحدى التعليقات الجميلة -مشكورة- تفيد بأن المقال حفّزهم وأشعل فيهم جذوة الشوق إلى الاستهداء وتغيير طريقة تعاملهم مع كتاب الله عز وجل، إلا أنهم لم يجدوا خطوات عملية تشير إلى طريقة التدبر أو تعريفات لماهيته. وفعلًا، كان مرادي التنبيه إلى تلك الفكرة، ولا يتسع المقام للحديث التفصيلي عنها، ولكني أوجه إلى كتابين نافعين بإذن الله في هذا الموضوع، وهما: كتاب الخلاصة في تدبر القرآن الكريم للشيخ خالد السبت -حفظه الله-، وكتاب مدارج الحفظ والتدبر للشيخ ناصر العمر -فرّج الله عنه-. وفي نفس المقال بعض الإشارات التي أحسبها نافعة.
وعلى الصعيد العملي، فقد تصدى لهذه الإشكالية العديد من العلماء والدعاة، الذين سعوا إلى إحياء الخطاب التجديدي الذي يعيد للوحي مكانته الصحيحة. أنصح بمتابعتهم ومتابعة نتاجهم في هذا الباب، ومن هؤلاء: الشيخ أحمد السيد، والشيخ أحمد عبد المنعم، والشيخ عمرو الشرقاوي، والشيخ فاضل سليمان، والشيخ كريم حلمي، كما برز أيضًا دور الشيخ إبراهيم السكران -فرّج الله عنه- والشيخ فريد الأنصاري -رحمه الله- وغيرهم من الفضلاء.
وحاجة الأمة اليوم إلى تجديد تعاملها مع القرآن حاجة ملحة، تستلزم جهود النخب والعلماء أن تجتمع لتوجيه الناس إلى حسن التعامل مع كتاب الله عز وجل. فما نشهده من ضعف الاعتبار بمرجعية الوحي وتعظيمه، وعدم إدراكه كمنهج للاستهداء والاتعاظ والتدبر، يشكل أزمة عميقة في واقعنا المعاصر. وغياب الأثر المرجو لأهل القرآن في زيادة الإيمان والفهم العميق الذي يؤدي إلى العمل والتفاعل مع الواقع أجلى وأوضح. ويرجع ذلك إلى اقتصار التعامل مع القرآن على بعض مقاصده الشريفة كالتلاوة والحفظ، دون التوسع في تدبره واستنباط معانيه.
وبعد كتابة ذلك النص، حصل أن كتبت بعض الفوائد الإصلاحية المستنبطة من قصة نبي الله شعيب عليه السلام في القرآن الكريم، فأرتأيت أن أشارككم إياها كنموذج عملي على فعل التدبر، وإثباتًا لكم بأن كل فرد منا قادر على ممارسة هذا النشاط القرآني الذي أمر الله به المنافقين والكافرين زاجراً إياهم، ومن باب أولى أن يخاطب أهل الإيمان به. وكلٌّ يأخذ من ذلك بقدر علمه وسعة قلبه لمضامين الوحي وما فيه من الإيمان:
«هُدًى لِلْمُتَّقِينَ» وكلما كان الإنسان ألزم بالعلم ومضامينه، كان أقرب لفهم الخطاب وموافقته، لاسيما إذا حرص على عرض تلك الاستنباطات على من يثق بعلمه وأخذ بتصويباته وتوجيهاته.
سأمر على أهم الآيات التي جاءت بها القصة، وسأحاول التركيز على الفوائد العامة بشكل رئيسي، دون تكرار التأكيد على الفائدة الواحدة في أكثر من موضع. كذلك لن أفصل في الفوائد التفصيلية التي تتعلق بمناسبة ذكر القصة أو مناسبة تكرار أحد وجوهها في كل مقام وعدم ذكره في مقام آخر.
وأشير هنا إلى فائدة عامة في شأن تكرار القصص القرآنية عامة، مفادها أن كل موضع ترد فيه ذكر أي قصة، ويُظن أنها مكررة، فإنها في الحقيقة تأتي بمعنى جديد يتناسب مع سياق الآيات وسياق السورة التي وردت فيها، وبإبراز جانب آخر قد غاب في موطن آخر، وبفائدة أخرى تتناسب مع ذلك السياق، ولو بدا للقارئ تشابهًا عامًا في الألفاظ. ولهذا لا تجد التكرار حرفيًا في القصص، ولكن المعنى العام هو المكرر، وقد تغيب تفاصيل في موضع وتحضر في آخر، وكل ذلك للمناسبة والتنبيه لذلك الوجه.
أولًا: دروس من سورة الأعراف
1. الجمع بين الإيمان والإصلاح المجتمعي: «وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا» [الأعراف: 85]. لاحظ حرص شعيب على تعبيد الناس لله وتحقيق التوحيد، ثم إصلاح مشكلتهم الخاصة في التطفيف وبخس الناس أشياءهم. وهكذا دعوة الأنبياء: توحيد ثم معالجة مشكلات قومهم البارزة في الواقع، كموسى عليه السلام مع الطغيان ولوط عليه السلام مع الفاحشة. والفائدة الإصلاحية: ألا يهمل المصلح تعبيد الناس لرب العباد على حساب معالجة الواقع، ولا يهمل الواقع بحجة الاهتمام بالعقيدة، خاصة إذا كانت العقيدة محصورة في بعض أبوابها كالتوحيد، أو حصر التوحيد ببعض مسائله. والجمع بين الإصلاحين هو الصواب، كما فعل الأنبياء.
2. التوازن بين الترغيب والترهيب: «ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» [الأعراف: 85]، و«وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» [الأعراف: 86]. خطاب شعيب يوازن بين الترغيب والترهيب. وهذا منهج دعوي سماوي، لكن قليل من المصلحين يوازن بين الخطابين بحسب الحاجة والمقام. هناك خطابات دعوية مغرقة في الترغيب، وهي الأغلب اليوم، وأخرى مغرقة في الترهيب. والداعية يحتاج أن يجمع بين الأمرين ويقدم خطابًا يتناسب مع الحال والمخاطب، فإلغاء أحد المقامين على حساب الآخر خطأ منهجي.
3. مواجهة التشويه الإعلامي: «وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا» [الأعراف: 86]. من أخطر ما يواجه الداعية الخطاب الإعلامي التشويهي. هذا من أساليب المجرمين لصد الناس عن دين الله. والمصلح الحصيف يدرك أبعاد هذه الخطابات، ويرد عليها ويضعها في سياقها بما يقتضيه الحال ولا يشغله عن طريقه الإصلاحي. واليوم، تكثر الخطابات التي تشوه الدعاة إعلاميًا وفي المسلسلات والأفلام، ومؤلم أن يغفل الدعاة عن هذه الحرب التي تصد الناس عنهم وعن دعوتهم.
4. تجاوز الكبر كعائق أمام الحق: «قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا» [الأعراف: 88]. الكبر من أكبر موانع قبول الحق، وبسببه عصى إبليس ربه، وهو نوع من الكفر: كفر الاستكبار. وهنا فائدة مهمة أن موانع قبول الحق ليست معرفية فقط، بل تشمل الأهواء والمصالح والمشاعر النفسية. يجب على الداعية إدراك هذه الأبعاد ليعالجها في خطابه، فلا يكون معرفيًا فقط. والخطاب القرآني يتميز بكشفه لهذه الموانع وكشفه لبواطن النفوس وتوضيح طريقة التعامل معها.
5. تحمل المشاق في طريق الإصلاح: «لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا» [الأعراف: 88]. الإخراج والقتل من أساليب المجرمين ضد أهل الحق. درب الإصلاح محفوف بالأشواك، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ». فقد يلاقي الداعية ما تكرهه نفسه وما يشق عليه، وقد يحارب ويُؤذى. هذا لا يجعله "مسكينًا أضاع نفسه"، بل هو على درب الأنبياء الذين ابتلاهم الله فصبروا، فكان منهم خليل الله وكليمه وكلمته، ورفع بعضهم درجات. أما تصور أن الدعوة محفوفة بالورود وأن فيها تصالحًا مع الجميع فهذا بعيد عن الواقع وعن هدي الأنبياء عليهم السلام، بل قد تكون المصادمة ضرورية أحيانًا لإحقاق الحق وتصحيح التصورات، وإن أدت إلى إضرار بالداعية.
6. تعزيز اليقين بالإيمان: «قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا» [الأعراف: 89]. يعبر شعيب عن كرههم للعودة إلى الكفر لأنهم ذاقوا حلاوة الإيمان وعرفوا الحق، فأنكروا الباطل. قال الله: «فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ». ومثل استبشاع الكفر ما حكاه هرقل لأبي سفيان: «وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب». وهي من الثلاث التي كانت فيه وجد بها حلاوة الإيمان: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: ... وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار». والفائدة الإصلاحية هنا هي أهمية أن يحرص الداعية على تعزيز اليقين في قلبه بمعرفة الأدلة والبراهين والاستزادة الإيمانية، ليذوق حلاوة الإيمان ويطمئن قلبه، فيصبر على ما يلاقيه.
7. تصحيح معايير النجاح والخسارة: «لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ» [الأعراف: 90]. لاحظ كيف وصفوا شعيب وأتباعه بالخسارة، وهذا جزء من الحرب الإعلامية بتخويف الناس من الداعية، لكن الله رد: «الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ». وفي هذا تصحيح للمعايير، فالخاسر الحقيقي هو من خسر نفسه وأهله يوم القيامة. وهذا من تصحيح المعايير القرآنية، وهو من أولويات الداعية. فالناس يتحدثون عن الفوز والخسارة والنجاح والفشل، ودور المصلح أن يصحح هذه المفاهيم بوضعها في ميزان الشرع، وستأتي إشارة أخرى لتصحيح شعيب للمعايير في إشارته للبركة.
ثانيًا: دروس من سورة هود
1. معرفة المجتمع المدعو: «وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا» [هود: 84]. شعيب أخوهم في النسب، وقال الله: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ» [إبراهيم: 4]. وهذا من لطف الله بالعباد، فالرسول إذا كان من قومه ويتحدث بلسانهم، يسهل عليه مخاطبتهم ودعوتهم، بخلاف ما لو كان غريبًا عن مجتمعهم وعاداتهم. والفائدة الإصلاحية هنا أن يدعو الداعية في المجتمع الذي يعرفه جيدًا وينتمي إليه، ولا يعني ذلك عدم الدعوة في مجتمعات أخرى أو بلغات مختلفة. فقد قيل إن شعيبًا أُرسل إلى غير مدين، وهم أصحاب الأيكة. لكن هذا يشير إلى لطف الله بالعباد، ويؤكد على ضرورة حرص الداعية على معرفة حال المدعوين وظروفهم فهو أدعى لأن يعرف مداخل نفوسهم ومخارجها.
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف قومه جيدًا. ففي صلح الحديبية، أراد النبي صلى الله عليه وسلم دخول مكة للعمرة، فصدته قريش. فأرسلوا رجلاً من بني كنانة للتفاوض. وعندما اقترب الرجل، قال النبي: "هو فلان، ومن قوم يعظمون البدن، فابعثوا البدن له". فأمر بإظهار الهدي (الإبل المعدة للذبح)، فلما رآها الرجل قال: "سبحان الله، ما ينبغي أن يُصد هؤلاء عن البيت!"، ورجع إلى قومه وقال: "رأيت البدنة مقلدة، لا ينبغي صدهم". فكان هذا سببًا في تسهيل المفاوضات، وهذا من وعي النبي صلى الله عليه وسلم بالخصائص، فلما عرف عادات القوم، استخدمها لصالح الدعوة.
2. تقديم البديل الشرعي: «وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ» [هود: 84]، ثم: «أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ» [هود: 85]. نهى شعيب عن المعصية وأمر بالطاعة. الداعية يذكر البديل الشرعي عند النهي عن المنكر، لأن الإنسان يحتاج توجيهًا للفعل الصحيح. والشريعة الإسلامية عندما تحرم فعلاً، تقدم بديلاً شرعيًا يلبي حاجة النفس البشرية بما يتوافق مع المصلحة، لكن هذا البديل لا يكون مماثلاً للمحرم في طبيعته أو سهولته، بل يهدف إلى تحقيق الخير والاستقامة. وليس كل محرم له بديل مباشر، إذ قد يكون التحريم ابتلاءً أو حفظًا لمصالح عليا لا يدركها العقل بالكامل. لذا، على الداعية توضيح حكمة التحريم وتسليط الضوء على البديل الشرعي إن وجد، مع تجنب تعويد الناس على توقع بديل لكل محظور، ليُدركوا أن طبيعة الشريعة تراعي التوازن بين الحاجات والضوابط، وأن جزء من التشريعات هو من الابتلاء المحض.
3. التوجيه إلى البركة: «بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ» [هود: 86]. مشيرًا إلى البركة، وهي قيمة غيبية تتجاوز الماديات، تضيف إلى القليل كثرة وإلى اليسير نماءً بإذن الله. الناس، حين يغرقون في المادة، يغفلون عن هذه المعاني الغيبية. ودور الداعية هو توجيه الناس إلى عالم الغيب ومعانيها المختلفة كالبركة هنا. ومن فعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله حين تمطر: «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي». فلاحظ كيف كان صلى الله عليه وسلم ينزع غشاء الأسباب المادية ويوجه إلى رب الأسباب، وكذلك لابد أن نكون.
4. السخرية: «قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ» [هود: 87]. في هذه الآية، يوجه قوم شعيب سخريةً وتهكمًا إلى نبيهم، محاولين النيل من دعوته بالاستهزاء بعبادته، معتبرين أن صلاته لا يمكن أن تلزمهم بترك عبادة آبائهم أو تمنعهم من التصرف في أموالهم كما يشاؤون، حتى لو كان ذلك بالغش والبخس. هذه السخرية ليست مجرد رد فعل عابر، بل جزء من أسلوب متكرر لدى أهل الباطل في مواجهة المصلحين، حيث يستخدمون التهكم للتشكيك في الدعوة وإضعاف حججها، مما يعكس طباع المجرمين عبر التاريخ في مقاومة الحق.
5. العبادة وأثرها على الأخلاق: قول قوم شعيب بمخرج التهكم: «أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ» [هود: 87] يكشف محاولتهم الفصل بين العبادة وأثرها على السلوك الأخلاقي، ظنًا منهم أن الصلاة مجرد طقوس لا تلزمهم بترك الشرك أو الغش في الأموال. هذا الظن يناقض حقيقة الصلاة، التي قال الله عنها: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ» [العنكبوت: 45]، إذ تربط العبد بربه وتصلح نفسه، فتمنعه من المنكرات كعبادة غير الله أو ظلم الناس. يقول الإمام السعدي: «وأي فحشاء ومنكر أعظم من عبادة غير الله ومنع حقوق عباده؟». هذا الفصل بين العبادة والأخلاق يشبه ما تروج له العلمانية اليوم، التي تدعي أن الدين مجرد ممارسات شخصية لا دخل لها في تنظيم السلوك الاجتماعي أو إصلاح المجتمع، متجاهلةً دور العبادة في تهذيب النفوس وبناء الأخلاق.
6. كشف أساليب المجرمين: يبين القرآن أساليب المجرمين في مواجهة الدعوة، كما في سخرية قوم شعيب من نبيهم، أو شبهات الجاهلية التي تتكرر عبر التاريخ، وقد تُسمى اليوم بالعلمانية. يقول الله: «وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ» [الأنعام: 55]، فمن موضوعات القرآن كشف هذه الأساليب ليحذر المصلحون منها. وتشابه هذه الأساليب يرجع إلى تشابه قلوب أهل الباطل، كما قال الله: «تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» [البقرة: 118]، حتى شبه الله تمسكهم بشبهاتهم بالوصية المتوارثة: «أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ» [الذاريات: 53]. وعلى المصلح أن يستحضر هذه الحقيقة، مستلهمًا من القرآن وعيًا لمواجهة أهل الباطل.
7. قيمة الصلاة: أشاروا هنا إلى الصلاة تعبيراً عن العبادة، وفي هذا عدة فوائد، منها: مقدار ما كان عليه شعيب عليه السلام من العبادة. وروي عند القرطبي أنه كان كثير الصلاة، مواظبًا على العبادة فرضها ونفلها، وللمصلح أن يعتني بالصلاة عناية خاصة فهي زاده الذي يصبره في طريق دعوته. والنبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، وقال الله سبحانه وتعالى لنبيه مرشدًا له على ما يواجه به ضيق صدره من المشركين: «وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ» [الحجر: 97-98].
8. الصلاة رمز الإيمان: والله سبحانه وتعالى عبر عن الصلاة بالإيمان في قوله: «وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ» [البقرة: 143]. كما أنهم هنا عبروا عنها رمزاً للعبادة، وكل هذا يرسخ قيمتها وقدرها في الإسلام.
9. الصلاة والزكاة: وفي الآية إشارة إلى عبادتين مركزيتين هما الصلاة والزكاة وقال الحسن: «لم يبعث الله نبيًا إلا فرض عليه الصلاة والزكاة». وهنا إشارة إلى ما فيه صلاح العباد، فالأولى عنوان الإحسان إلى الخالق والثانية عنوان الإحسان إلى الخلق، "وكثيرًا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن؛ لأن الصلاة متضمنة للإخلاص للمعبود، والزكاة والنفقة متضمنة للإحسان على عبيده؛ فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود وسعيه في نفع الخلق، كما أن عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه." «تفسير السعدي | البقرة: 3».
10. الإصلاح بلا نفاق أو مصادمة: «إن أُرِيدُ إِلّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ» [هود: 88]. وهنا معنيان مهمان: الأول، أنه لا ينهى عن خطأ المكيال والميزان ثم يفعله. وقال الله عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ» [الأنعام: 163]، وعن موسى عليه السلام: «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» [الأعراف: 143]. فالداعية يجب أن يكون أول الممتثلين لما يأمر به. والمعنى الثاني، أنه لا يخالفهم لمجرد المخالفة، بل سعياً للإصلاح. فبعض الشباب يظنون أن الدعوة تعني مصادمة المجتمع أو السلطة دائمًا، لكن مقصد الداعية الإصلاح بالحكمة والموعظة الحسنة، لا افتعال المشكلات. على أنه قد تكون المصادمة وسيلة أحيانًا لتصحيح المفاهيم وحفظ تصورات الحق من الضياع، لكنها ليست المقصد، ويكون ذلك بفقه وعلم وخوف من الله من التعدي بغير حق أو شطط بلا مسوغ شرعي.
11. التعالي عن الخصومات الشخصية: «وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي» [هود: 89]. إشارة إلى التعالي عن الجدل الشخصي والعداوات. الداعية يوجه الناس نحو الأفكار ومحاكمة المواقف بالحق والباطل، دون التورط في الخلافات الشخصية. لأن ذلك قد يزيد إصرارهم على الفساد. والهدف إيضاح الحق، لا إثارة الأحقاد.
12. فهم نفوس الناس: يظن بعض المصلحين أن معرفة الحق توجب اتباعه، لكن هناك أهواء نفسية وخارجية، كالحب والبغض، تؤثر في قبول الأفكار. يجب على الداعية فهم هذه الجوانب ليخاطب الناس بما يناسبهم.
13. التصدي للتشويه الشخصي: «قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا» [هود: 91]. يظهر جانب آخر من الحرب الإعلامية بسخريتهم منه ووصفه بالضعف، سواء لكونه ضريرًا، أو فردًا، أو لأن عشيرته ليست على دينه. وهذه أساليب أعداء الحق لإضعاف صورة الداعية وتشويه سمعته للطعن في رسالته. يجب على الداعية أن يكون على دراية بهذه الأساليب، ويتعامل معها بحكمة وثبات، مركزًا على الحق دون الانجرار للاستفزاز. وقد يحتاج لتبرئة نفسه من اتهامات قد تضر بدعوته، لأن تشويه الشخص قد يكون وسيلة لإسقاط الحق.
14. أهمية الحماية الاجتماعية: «وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ» [هود: 91]. يظهر أن مكانة عشيرة شعيب حمته من الإيذاء. هذا يعلم الداعية أهمية وجود قوة أو حماية تدفع عنه الأذى وأن يتطلب تحصيل تلك الحماية وذلك الغطاء لإيصال دعوته، حتى لو لم تكن مؤمنة بدعوته. كما حمى أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم رغم عدم إسلامه. بشرط عدم التنازل عن أصول الدين. فالهدف الحفاظ على سلامة الداعية واستمرارية دعوته. وقد يدعو بلا حماية ولا ركن شديد كما كان مع نبي الله لوط عليه السلام: «قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَىٰ رُكْنٍ شَدِيدٍ» [هود: 80].
ثالثًا: دروس من سورة الشعراء
1. الأمانة في الدعوة: «إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ» [الشعراء: 178]. يعرف شعيب نفسه بالأمانة، وهي جوهر شخصية الداعية. يجب أن يكون صادقًا في أقواله وأفعاله، لا يخفي الحق ولا يتلاعب بالمفاهيم لمصالح شخصية. الأمانة تعني تبليغ الرسالة دون تحريف وتجسيدها عمليًا. الناس يتأثرون بأمانة الداعية أكثر من كلماته، فهي مفتاح الثقة والتأثير.
2. الثبات أمام التحديات: «فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» [الشعراء: 187]. يظهر تحدي قومه وسخريتهم بطلب معجزات بتعنت، رغم وضوح الحق. هذا أسلوب المكذبين عبر العصور. يتعلم الداعية ألا ينجر وراء استفزازاتهم، بل يثبت على الحق ويعتمد على الحجة والبرهان بما يستطيع لإيضاح الحق، ويكل ما فوق ذلك لله سبحانه وتعالى.
رابعًا: دروس من سورة العنكبوت
1. مركزية اليوم الآخر: «يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ» [العنكبوت: 36]. يجعل شعيب اليوم الآخر محور دعوته، مقترنًا بعبادة الله. هذا يبرز مركزية اليوم الآخر في دعوة الأنبياء، فلا تكتمل رسالة التوحيد دون ترسيخ اليقين به، الذي يحمل الناس على مسؤولية أعمالهم. استحضاره ليس ترهيبًا فقط، بل توجيه لمراقبة الله والاستعداد بالحسنات. كان الأنبياء يذكرون أقوامهم بالحساب ليكون دافعًا للطاعة، وعلى الداعية اتباع هذا النهج لأثره في تقويم السلوك وإصلاح النفوس.
الخاتمة
هذا والله أعلم، فقد حاولت المرور على أهم الفوائد والعبر المستفادة من قصة نبي الله شعيب عليه السلام، بما يسمح به المقام ويستوعبه الحديث. وإن قصص الأنبياء في القرآن الكريم مليئة بالدروس والعظات التي لا تنتهي، ولن يستطيع أحد أن يحدها أو يحيط بكل فوائدها مهما اجتهد، فهي كنوز إلهية تتجدد مع التدبر والتأمل.
فإن أحسنا وأصبنا في استخراج هذه الفوائد، فذلك بفضل الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، وإن أخطأنا أو قصّرنا، فمن أنفسنا. نسأل الله أن ينفعنا بما علّمنا، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
.png)
الله يجزيكم الخير
ردحذفماشاءالله تبارك الله
ردحذفالله يبارك فيك
ردحذف