التباين الإصلاحي بين الأجيال
مقدمة
عند التأمل في دعوة الأنبياء وتجارب المصلحين، نلاحظ تباينًا واضحًا في اهتمامهم بين الجيل المعاصر والجيل الجديد. ومن الأمثلة الجلية على هذا التباين، ما نراه في دعوة سيدنا موسى عليه السلام، مقارنة بدعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فدعوة سيدنا موسى احتاجت لأكثر من جيل حتى تحقق مراد الله في الأرض، في حين أن دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تحققت في الجيل الذي بُعث فيه.
ومن النماذج التاريخية المعبرة، أيضًا، ما قام به الصحابة الكرام بعد فتحهم لبلاد فارس والروم؛ إذ كان اهتمامهم الأكبر مُنصبًا على تربية الجيل الجديد، فخرج من هذا الجيل علماء مجاهدون، حملوا لواء الدين، ورفعوا راية العلم والجهاد.
وهنا يُطرح السؤال: متى يهتم المصلحون بالجيل الجديد؟ ومتى يكون التركيز على الجيل المعاصر؟ وما سبب التباين “الإصلاحي” في هذه الأمثلة؟
أسباب التباين الإصلاحي
الجواب أن هذا التباين الإصلاحي، سواء في الأمثلة السابقة أو في قصص الأنبياء والسيرة النبوية والتاريخ الإسلامي عمومًا، يعود إلى حالة الجيل الموجود من حيث قابليته للتغيير، واستعداده لتحمل أعباء الرسالة. فقد يكون الجيل المعاصر - في بعض الأحيان - قد تحطم نفسيًا وفكريًا إلى درجة لا تسمح باستصلاحه لقيادة التغيير، فيصبح من الضروري على المصلح أو الداعية أن يوجّه جهوده نحو الجيل الجديد، الذي يمثّل الأمل في إحياء الرسالة وبناء المستقبل.
وهذا ما حدث مع بني إسرائيل في دعوة سيدنا موسى عليه السلام؛ فقد كتب الله عليهم التيه أربعين سنة حتى ينشأ جيل جديد يتحلى بالقوة والعزيمة، كما قال الله تعالى: ﴿قالوا يا موسى إِنّا لَن نَدخُلَها أَبَدًا ما داموا فيها فَاذهَب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدونَ قالَ رَبِّ إِنّي لا أَملِكُ إِلّا نَفسي وَأَخي فَافرُق بَينَنا وَبَينَ القَومِ الفاسِقينَ قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيهِم أَربَعينَ سَنَةً يَتيهونَ فِي الأَرضِ فَلا تَأسَ عَلَى القَومِ الفاسِقينَ﴾ [المائدة: ٢٤-٢٦].
وقد قال الإمام السعدي رحمه الله في تفسيره: “ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة الصادرة عن قلوب لا صَبْرَ فيها ولا ثباتَ، بل قد ألفت الاستعباد لعدوها، ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها، ولتظهر ناشئة جديدة تتربى عقولهم على طلب قهر الأعداء وعدم الاستعباد والذل المانع من السعادة.”
وإذا عدنا إلى بداية دعوة سيدنا موسى، نجد أن الجيل السابق كان بعيدًا عن قبول الحق، أو غير مستعد لتحمل تكليف مواجهة الطاغية فرعون، فلم يؤمن به إلا فئة قليلة من الشباب، كما قال الله تعالى: ﴿فَما آمَنَ لِمُوسَىٰ إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَىٰ خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ۚ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾ [يونس: ٨٣].
ويعلق الإمام السعدي رحمه الله على ذلك بقوله: “والحكمة - والله أعلم - في كون ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه: أن الذرية والشباب أقبل للحق وأسرع له انقيادًا، بخلاف الشيوخ ونحوهم ممن تربوا على الكفر، فإنهم بسبب ما مكث في قلوبهم من العقائد الفاسدة أبعد عن الحق من غيرهم.”
نماذج تاريخية
هذا المبدأ الإصلاحي نفسه يظهر جليًا في اهتمام الصحابة رضي الله عنهم بعد الفتوحات الإسلامية، حيث ركزوا على تربية الجيل الجديد في البلاد المفتوحة، لأنهم وجدوا فيه استعدادًا فطريًا لقبول الحق، واستثمروا فيه ليكون جيلًا مؤهّلًا لقيادة الأمة. ومن هنا خرج علماء ومجاهدون، أمثال الإمام البخاري والإمام مسلم، من أبناء بلاد ما وراء النهر، الذين نشأوا في ظل تربية إسلامية صحيحة.
ولابد من ملاحظة أن هذا التوجه الإصلاحي يقوم على تعليلين أساسيين:
1. التعليل النفسي: ويرتبط بما اعتادت عليه النفوس من الذل، أو المهانة، أو الانحراف العقدي، مما يجعل بعض الأجيال غير مؤهلة للتغيير.
2. التعليل الجِبِلّي (الطبع البشري): وهو طبيعة الشباب في سرعة استجابتهم وقابليتهم للتغيير مقارنة بالشيوخ، الذين قد تتصلب آراؤهم بسبب طول العادة. وهذا المعنى متكرر في القرآن، كما في قصة أصحاب الكهف: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣].
فهم فتية، وكانوا الأقدر على مواجهة الباطل والتمسك بالحق، لأن نفوسهم ما تزال قريبة من الفطرة السليمة، وعقولهم أكثر مرونة وانفتاحًا.
أما في حالة الصحابة رضوان الله عليهم، فقد كانت الثمرة الإصلاحية واضحة في الجيل المعاصر وما بعده، وذلك لطبيعة الصفات العربية التي تتماشى مع الإسلام، مثل الأنفة والعزة والصدق. هذه الصفات جعلت نفوسهم أكثر قابلية للانصياع للحق، فتغلب العامل الجِبلي في نفوس الكثيرين، بفضل قوة الحق في ذاته وما في أنفسهم من خير. ومع ذلك، لم يتغلب هذا العامل في نفوس البعض الآخر بسبب قوة الهوى أو الشر الكامن فيهم.
دور المصلح
والمصلح الناجح هو من يقرأ واقع الجيل الذي يعمل معه بعناية. فإذا وجد جيلًا معاصرًا يمتلك استعدادًا نفسيًا وفكريًا للتغيير، فعليه أن يستثمر فيه مباشرة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع الصحابة. أما إذا كان الجيل المعاصر غارقًا في الانحراف أو الضعف، فليوجه جهوده نحو الجيل الجديد، لأن قلوبهم أقرب إلى الفطرة، وعقولهم أكثر انفتاحًا على الحق.
وعلى المصلح أن يعي الجيل الذي يخاطبه من الناحية العمرية، ومن ناحية طبيعته التكوينية، فيعطي للشباب المؤهّل معاني ومعايير مرتفعة، ويركز عليهم في العمل والبناء وإنفاق الأوقات، لأنهم الثمرة التي يقام بها الدين بإذن الله تعالى. أما من كبر سنه وسفلت همته، فيُرضى منه بالقليل الذي ينجيه يوم القيامة.
الخاتمة
وهنا تتجلى ثمرة هذا التباين الإصلاحي، فالنجاح في الإصلاح يعتمد على فهم الواقع، وتخصيص الجهود بحسب استعداد الأفراد والأجيال. وهذا الكلام يحتاج إلى بسط وتأمل وتفكر أكثر، ولكن هذا ما عنّ في النفس. أسأل الله أن يبارك وينفع.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أحسنت النشر
ردحذفبارك الله فيك شيخ عبد الرحمن ، ربنا ينفع بك
ردحذفبارك الله فيكم
ردحذف