مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون
هذه مراجعة لكتاب قلق السعي إلى المكانة للفيلسوف والكاتب المعاصر آلان دو بوتون.
النفس البشرية تحمل في أعماقها شعورًا فطريًا بالحاجة إلى كسب قلوب الناس، واستدعاء انتباههم، والحصول على تقدير يوازي ما يمنحه الناس لغيرهم. هذه الحاجة جوعٌ فطري أصيل، لا ينفك الإنسان عنه. الكتاب يناقش هذا الجوع، وهذه الشهية الفطرية، ويبيّن أن الإفراط فيها يولّد قلقًا خبيثًا يجعل الإنسان قادرًا على إفساد مساحات واسعة من حياته، ويؤدي إلى ضياع كثير من القيم والروحانيات، ويشوّه نظرته إلى الأمور فيحكم عليها حكمًا سلبيًا أو حتى على نفسه وتقديره لذاته.
هذه هي الفرضية الأساسية التي يحاول الكتاب الكشف عن أسبابها وطرح علاجات لها، مما قدّمته الفلسفات والديانات والتجارب الإنسانية عبر التاريخ.
قسّم المؤلف كتابه إلى قسمين:
- الأسباب.
- الحلول.
وسأمرّ على كل فصل من فصول الأسباب، أعلّق وأوضّح، ثم أنتقل إلى الحلول بنفس الطريقة إن شاء الله.
الجزء الأول: الأسباب
السبب الأول: افتقاد الحب
أول ما ذكره المؤلف في الأسباب هو افتقاد الحب. والمقصود به حاجة الإنسان الملحّة إلى حبّ الناس له، ورغبته الشديدة في أن يكون محبوبًا ومقبولًا وهذه جوعه فطرية. ولأجل تحقيق هذه الرغبة بأن تلتفت إليه قلوب الناس يقوم الإنسان بالانصياع إلى رغبات المجتمع والناس، فيخضع للجري إلى سلطة المال وسلطة الشهرة وغير ذلك من السلطات حتى ينال محبتهم سواء الحقيقية أو الوهمية.
كنت أتامل في هذا المعنى الذي يمركز الناس، ثم أستذكر كيف أن القرآن الكريم يكشف لنا أن طريق المحبة واضح: قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا﴾أي أن الله يجعل لهم محبة في قلوب الناس. فالطريق إلى المحبة ليس كما يظن الفكر الرأسمالي، الذي يتنازل الإنسان فيه عن جزء من مبادئه أو يسعى إلى جمع المال ليُحبَّ لأجله أو ليفعل أي شيء يجذب به قلوب الناس إليه. بل المعادلة في الإسلام واضحة:
«من أرضى الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس. ومن أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس».
ولكن أن تتصور مقدار التحرر الذي يشعر به المسلم، حين يدرك أنه لابد له أن يرضي الله سبحانه وتعالى وحده فيُرضي عنه الخلق:
«إن الله تعالى إذا أحب عبدا دعا جبريل، فقال: إني أحب فلانا فأحببه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يحب فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض»
بعكس ذلك الإنسان الذي لا يكف عن تملق الآخرين حتى يحبوه أو يرمقوه بنظرة يفر بها مما حكاه المؤلف عن أعظم عقوبة للإنسان، وهي أن يُتجاهل ويُعامل وكأنه غير موجود. هذا التجاهل يولّد شعورًا باليأس والعجز. لكن في الإسلام، هذا الجوع لا يستولي على المؤمن استيلاءً كاملًا؛ لأن معيار الحكم ليس محصورا عنده بالناس، قال النبي ﷺ:
«ربَّ أشعثَ أغبرَ مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه».
هنا المكانة لهذا الإنسان تُستمد من عالم الغيب، من رضا الله لا من محبة الناس. بل الإسلام تجاوز ذلك إلى التحذير من المحبة الزائفة غير المبررة، المبنية على المديح. قال النبي ﷺ:
«احثوا في وجوه المدّاحين التراب».
السبب الثاني: الغطرسة
السبب الثاني الذي ذكره المؤلف هو الغطرسة (Snobbery)، أي التفاخر الطبقي أو التعالي. صار الإنسان في هذا العصر يعيش ويخالط كثيرًا من الناس الذين لا يهمّهم سوى أن يتباهوا بما عندهم:
- منهم من يتباهى بالمال،
- ومنهم من يتباهى بالمعرفة،
- ومنهم من يتباهى بالمظاهر.
هذا الجوّ المليء بالغطرسة يدفع الآخرين من حولهم إلى أن يسعوا للحصول على مثل ما عند الآخرين، حتى يظفروا بشيء من اهتمامهم، أو على الأقل لئلا يواجهوا عقوبة الإهمال والتجاهل أو الغربة الموحشة بين أفواج المتغطرسين.
الغطرسة هنا تتحوّل إلى معيار: فالعالم المتغطرس لا ينظر إليك ما لم تكن وفق هذه المعايير التي وضعها. ومهما امتلكت من روح صافية أو قدرات عقلية أو صفات إنسانية، لا قيمة لها في عينه إن لم تنافسه في غطرسته. وهكذا يجد الإنسان نفسه بين خيارين:
- إما أن يدخل في سباق الغطرسة حتى يحافظ على مكانته،
- أو أن يقبل عقوبة التجاهل والإقصاء.
وهذا مصدر آخر من مصادر قلق السعي إلى المكانة، الذي يجعل الناس يركض خلف ما لا يريد ربما، أو نحو شهوات وجوعات لا يمكن لها أن تشبع، وليس أصدق من النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال:
"لو أن لابن آدم مثل واد مالا لأحب أن له إليه مثله، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب"
السبب الثالث: التطلّع
السبب الثالث الذي ذكره المؤلف هو التطلّع، أي رفع سقف التوقعات والرغبات باستمرار. بدأ الفصل بمقدمة جميلة عن التقدم المادي وكيف تسارعت الاختراعات في القرن العشرين، حتى غزت العالم وغيرت حياة الناس. لكن هذه الطفرة المادية لم تجلب السكينة، بل جعلت الناس أكثر هوسًا بالاستهلاك، وأكثر انشغالًا بالتسوق والاقتناء، ومقارنة أنفسهم بالآخرين.
هنا تقع المفارقة: فمع أن مستويات العوز الحقيقي انخفضت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، إلا أن الناس أصابهم خوف متصاعد من العوز! وكأن الوفرة لم تجلب لهم الطمأنينة، بل زادتهم قلقًا. وبالمقابل تطرّق المؤلف هنا إلى معنى الثراء، وأربط معي ما سأحكيه لك عن الثراء بمفهوم العوز آنف الذكر، يقول المؤلف بما معناه: الثراء ليس أن تمتلك أشياء كثيرة، بل أن تمتلك ما تحتاجه. فكلما طمعتَ تطلعت إلى شيء ولم تنله شعرت بالفقر، مهما كانت أموالك كثيرة. وكلما رضيت بما بين يديك، شعرت بالثراء، مهما قلّ ما تملك.
وهنا تذكرت قول النبي النبي ﷺ:
«من كانت الآخرة همَّه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة. ومن كانت الدنيا همَّه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرّق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدّر له»
إذن، الغنى الحقيقي هو غنى القلب، أي الرضا، لا كثرة المال.
ويُستشهد هنا بقول روسو:
«يمكن جعل الإنسان أكثر ثراءً بطريقتين: أن تعطيه مالًا أكثر، أو أن تحدّ من رغباته».
وهذه حكمة وافقها علماء السلوك عندنا، حين حذّروا من التوسع في المباحات؛ لأنه يولّد شعورًا دائمًا بالحاجة ويقلّل الرضا ويولد السخط فيشعر الإنسان بمهانته.
نتجية هذا التطلع المستمر صار الناس ينظرون إلى ما في أيدي بعضهم البعض ويتحاسدون. وهنا أورد لفتة جميلة في موضوع التحاسد، حيث لاحظ أن الحسد لا يتولّد عادة بين من بينهم فوارق ضخمة، بل بين المتقاربين. قال:
«الحسد وليد التقارب... نحن نحسد فقط أولئك الذين نشعر بأننا أشباه لهم. وقد نتسامح مع نجاحات الآخرين البعيدة عنا، لكن نجاح أندادنا المزعومين لا يُطاق».
هذه النقطة جوهرية: الإنسان يقارن نفسه بأمثاله وأقرانه، فإذا نجحوا حيث فشل، شعر بالمهانة.
واستعان المؤلف هنا بمعادلة وليم جيمس ليفسر كيف يصل الإنسان للشعور بالمهانة نتيجة هذا التطلع، معادلة وليم جيمس تقول:
تقدير الذات = النجاح ÷ الطموحات
ومع ازدياد الطموحات والتطلعات بلا توقف، ويظل النجاح ثابتًا أو محدودًا، يتدهور تقدير الإنسان لذاته. ثم ذكر فكرة لافتة في معالجة هذا التدني، فحواها: أن الإيمان بالآخرة يخفف من هذا الشعور بالمهانة. فالذي يؤمن أن الدنيا مجرد مقدمة للوجود الأبدي، يقلّ عنده التطلع المَرَضي، ويخفّ حسده للآخرين. أما الذي فقد إيمانه بالآخرة، فيرى أنه لا يملك سوى فرصة واحدة، فإذا فشل في وظيفة أو لم يحصل على ما يريد في هذه اللحظة، اعتبر أن فرصته الوحيدة ضاعت.
السبب الرابع: الكفاءة
السبب الرابع الذي ذكره المؤلف هو الكفاءة، أو ما يُعرف اليوم بالميريتوقراطية (حكم الجدارة).
السرديات القديمة حول الفشل
ذكر المؤلف أن المجتمعات قديمًا كانت تفسر الفقر والفشل بثلاث قصص كبرى، مريحة في ظاهرها:
- الفقراء غير مسؤولين عن ظروفهم: فالظروف التي نشؤوا فيها أجبرتهم على الفقر، ولم يختاروه هم. بل إن وجودهم ضروري للمجتمع؛ لأنهم يخدمون في أماكنهم، ويؤدون دورهم.
- المكانة الدنيوية لا دلالة أخلاقية لها: فالغنى لا يعني الصلاح، بل كثيرًا ما يكون فتنة وخطرًا على صاحبه. هذا المعنى أكّدت عليه معظم الأديان.
- الأغنياء فاسدون: فقد اكتسبوا ثرواتهم بسرقة الفقراء أو ظلمهم، خصوصًا عبر الإقطاعيات والاستيلاء على حقوق الناس.
السرديات الحديثة عن النجاح
لكن هذه القصص تغيّرت في العصر الحديث، وصارت هناك ثلاث سرديات جديدة:
- الأغنياء هم المفيدون والفقراء غير مفيدين: الأغنياء هم الذين يشيّدون المشاريع ويطورون البلاد ويسهمون في التقنية والاقتصاد. أما الفقراء، فيُنظر إليهم كعبء على المجتمع.
- للمكانة دلالات أخلاقية: بخلاف الماضي، أصبح النجاح في الدنيا يُعتبر معيارًا للاستحقاق الأخلاقي. والسبب أن المجتمعات الحديثة تؤمن بمفهوم "تكافؤ الفرص". فأمامك امتحانات في المدرسة، ثم في الجامعة، ثم مقابلات العمل، والفرص ـ على الورق ـ متساوية. من ينجح يستحق مكانته، ومن يفشل فهو مذنب لأنه لم يستغل فرصته. المؤلف ضرب مثالًا باختبار الـ SAT في الغرب، الذي يعتمدون عليه بشكل كبير: إذا نجحتَ أخذت الفرصة، وإذا فشلت فالمشكلة مشكلتك.لاحظ كيف تحوّل الأمر: من فكرة إيجابية عن العدالة، إلى نتيجة سلبية اجتماعيًا؛ إذ صار الفشل يُعتبر وصمة شخصية.
- الفقراء آثمون أو أغبياء: في هذا التصور، الفقر ليس مجرد ابتلاء أو نتيجة للظروف، بل دليل على أنك غبي، لم تستطع أن تنجح، ولا أن تؤدي مهمة، ولا أن تكتسب مهارة. فأنت عالة على المجتمع، وذنبك عليك. المؤلف يربط هذه السردية الأخيرة بفلسفة الداروينية الاجتماعية، التي تفسر الفقر والغنى بمفهوم "البقاء للأصلح". وهكذا صار يُنظر إلى الفقر كعقوبة عادلة، وإلى الغنى كجائزة طبيعية.
الرؤية الإسلامية
أما في التصور الإسلامي، فالأمر مختلف تمامًا.
- الفقراء عندنا ليسوا عبئًا ولا بلا قيمة. قال النبي ﷺ لسعد بن أبي وقاص:«هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم؟».فهؤلاء الضعفاء هم سبب النصرة والرزق والبركة.
- ثم إن معيار الكرامة عند الله ليس النجاح الدنيوي ولا الذكاء ولا المال، بل قال الله تعالى:﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾.فقد يكون المرء أقل علمًا أو فهمًا أو حظًا دنيويًا، لكنه أتقى، فهو أكرم عند الله.
- أما في المجتمعات الحديثة، فقد صار النجاح والفشل يقاسان على أساس اختبارات ومقابلات "غير منحازة"، كما يُقال. وبذلك لم يعد ممكنًا الادعاء أن الأغنياء بلغوا مكانتهم فقط بالفساد أو بالوراثة، كما كان يُقال في الماضي. بل الآن يزعمون أن كل واحد بلغ موقعه عبر وسائل عادلة. وهكذا صار الفشل عندهم جزاءً عادلًا، كأنه عقوبة أخلاقية على قلة الكفاءة. أما النجاح، فصار دليلًا على قيمة عليا.
لكن في الإسلام، لا مكان لهذا المنطق. لا يُقال للفقير: أنت فقير لأنك غبي أو مذنب. بل الفقر حال من الاحوال الدنيوية ليس أكثر. والمعيار الحقيقي هو التقوى، لا النجاح في امتحان دنيوي ولا منصب اجتماعي.
السبب الخامس: الاعتماد
السبب الخامس الذي ينهض عليه قلق السعي إلى المكانة هو الاعتماد على عوامل خارجة عن إرادتنا. المؤلف يذكر خمسة عوامل عصية على التوقع، يتوقف عليها كسبنا للرزق والاحترام، وهي نفسها تقدّم لنا خمسة مبررات وجيهة كي لا نطمئن أبدًا إلى بلوغ المنصب المنشود أو الاحتفاظ به داخل تراتبية المناصب:
- الاعتماد على المواهب المتقلبة: قد يملك الإنسان موهبة، لكنها تخبو أو تتغير بمرور الزمن.
- الاعتماد على الحظ: وهو خارج عن السيطرة، يرفع أناسًا ويخفض آخرين بلا منطق ظاهر.
- الاعتماد على صاحب العمل: قد تكون كفؤًا، لكن مصيرك بيد مدير متقلب المزاج أو صاحب قرار غير عادل.
- الاعتماد على الاقتصاد العالمي: تتأثر حياتك بارتفاع وانخفاض المؤشرات والأسواق العالمية، التي لا سلطة لك عليها.
- الاعتماد على السوق وأهوائه: أذواق الناس قد تميل لشيء اليوم وتنصرف عنه غدًا، فتمحو قيمة جهودك بين ليلة وضحاها.
هذه العوامل تجعلنا غير قادرين على تقديم إجابة مطمئنة عن سؤال:
هل سنبلغ المكانة التي نريدها؟ وهل سنحتفظ بها إن بلغناها؟
فالإجابة تظل خاضعة لسلطان الرسوم البيانية صعودًا وهبوطًا، ولصراعات السوق، ولأهواء متقلبة لا يد لنا فيها. وفي أثناء ذلك كله، تبقى حاجتنا للحب والقبول راسخة، لا تزعزعها الظروف، بل هي ثابتة فينا كما كانت منذ طفولتنا. هذا الخلل في التوازن — بين حاجتنا الثابتة إلى الحب والتقدير، وبين اضطراب أحوال العالم الخارجية — هو خامس الأعمدة التي ينهض عليها قلق المكانة في نفوسنا.
الجزء الثاني: الحلول
الحل الأول: الفلسفة
بدأ المؤلف بالحديث عن الفلسفة كأول طريق لتخفيف قلق المكانة.
الفلاسفة كانوا دائمًا أقدر الناس على مواجهة نظرة الآخرين إليهم، وعدم الاضطراب لأحكامهم السطحية. السبب أنهم لم يسمحوا لأي حكم خارجي أن يتحول إلى حقيقة في نظرهم إلا بعد أن يمر على عقولهم، ويتأكدوا: هل هو صحيح أم لا؟
فالإنسان الفيلسوف لا يسلّم بأن ما يقال عنه هو الواقع. بل يختبره بعقله: إن كان صدقًا قبله، وإن كان باطلًا رفضه.
قال شوبنهور:
«سيكون كل توبيخ وانتقاد مؤلمًا فقط إذا ضرب على أوتارنا الحرجة. أما الشخص الواثق من أنه لا يستحق هذا التوبيخ، فهو قادر، إن شاء، أن يزدريه مطمئنًا واثقًا بنفسه».
إذن، الفلسفة تدرّب الإنسان على ألا يكون عبدًا لآراء الناس. قيمته ليست فيما يبدو في أعين الآخرين، بل فيما يعرفه عن نفسه من الداخل.
الحل الثاني: الفن
الحل الثاني الذي طرحه المؤلف هو الفن. والمقصود به الفنون بمختلف أشكالها: الروايات، اللوحات، المسرحيات، وحتى الكوميديا. هذه الفنون ساهمت في كشف النفاق الطبقي والبرجوازية، وفضح كوامن النفوس المتغطرسة.
- الروايات: كثير من الروايات العالمية تناولت موضوع المكانة، وسخرت من التفاخر الاجتماعي، وأظهرت هشاشة الطبقات العليا.
- اللوحات: في العصور القديمة كان التركيز على رسم الملوك والعظماء والقصور الفخمة. لكن مع تطور الفن، تحوّل الاهتمام إلى تصوير مشاهد عابرة من الحياة اليومية: منظر بحر، قلعة صغيرة، حي شعبي بسيط. هذا الانتقال ساعد الناس على إدراك أن القيمة ليست في المظاهر الباذخة، بل في بساطة الحياة الإنسانية.
التراجيديا
تحدث المؤلف أيضًا عن التراجيديا. وفكرتها -لمن لا يعرفها- أن الشخصية الرئيسية في القصة يكون إنسانًا عاديًا، يخطئ خطأً بشريًا عادياً يكون فيه سوء تقدير، فتتوالى عليه المصائب والمشاكل. وهنا يتولد عند المشاهد شعور مزدوج:
- لا يستطيع أن يلومه كثيرًا، لأنه لم يقصد الخطأ أصلًا، وإن قصده فهو خطأ يمكن لأي أحد أن يقع فيه.
- ولا يستطيع أن يعفيه تمامًا، لأن النتائج كانت وخيمة.
من خلال التراجيديا، يتعلم الناس أن الفشل ليس دائمًا عارًا أو فضيحة، بل نتيجة طبيعية لأخطاء بشرية شائعة. وهذا يخفف من ثقل الإخفاقات في أعينهم. لكن عندي تعليق: هذه النظرة للتراجيديا قد تكون مفيدة نعم في تفهم الإخفاقات من وجه، لكن لها جانب سلبي؛ فالإفراط في هذا الفن — كما يُرى في كثير من الأفلام والمسلسلات والروايات الغربية— جعل حتى الشخصيات الإجرامية والشيطانية تُقدَّم على أن مواقفها متفهمة، تُبرَّر أفعالها، وتُصوَّر على أنها ضحية في بعض الأحيان أو يجلب لها بعض التعاطف. بهذا التطرف يمكن أن يُسوَّق للشر على أنه متفهم، حتى يكاد يُصوَّر إبليس نفسه كأنه "المتحرر" من القيود وأنه غير ملام بما وقع به من الاستكبار والعصيان.
الكوميديا
ثم ذكر المؤلف الكوميديا كأحد أدوات الفن، التي استطاعت أن تسخر من الملوك والسادة والأباطرة والبرجوازيين فحطمت أصنامهم ومكانتهم. الكوميديا والكاريكاتير كان لهما دور بارز في تحطيم هيبة المكانة الزائفة، وكشف تهافتها أمام الناس. وهكذا، صارت الفنون أداة لتصحيح مظالم السلطة، وتخفيف الحسد، وتبسيط صورة "الكبار" في عيون المجتمع.
الحل الثالث: السياسة
الحل الثالث الذي ذكره المؤلف هو السياسة. السياسة هنا ليست بمعنى الانخراط الحزبي المباشر، بل بمعنى فهم تطور المجتمعات وكيف تغيّرت نظرة الناس إلى المكانة عبر العصور. فحين يفهم الإنسان الخلفيات السياسية والاجتماعية التي صنعت المعايير الحالية — كالشهرة والمال والمنصب — فإنه يصبح أقدر على النظر إليها بعين الناقد، لا بعين المسلِّم.
- في عصور سابقة، كانت المكانة تُمنح بالوراثة: الأمير أمير لأنه وُلد في عائلة ملكية، والإقطاعي إقطاعي لأنه ورث الأرض.
- مع تطور المجتمعات الحديثة، تغيّرت هذه المعايير إلى النجاح الأكاديمي، الوظائف، الإنجاز الفردي.
إدراك هذا التطور التاريخي يجعل الإنسان أقدر على التحرر من سطوة هذه المعايير، وأقل خضوعًا لها. بمعنى آخر: إذا عرفتَ أن "معايير المكانة" ليست أبدية ولا مقدسة، بل نتاج ظروف سياسية واجتماعية متغيرة، فسوف يخفّ قلقك من الركض خلفها. المؤلف يرى أن هذا الوعي السياسي أحد وسائل العلاج، لأنه يحرر الإنسان من أسر المعايير المصطنعة التي يفرضها المجتمع المعاصر.
الحل الرابع: الدين
الحل الرابع الذي ذكره المؤلف هو الدين. لكنه عرضه بطريقة فيها ما فيها من النقص؛ إذ ركّز على جانب واحد تقريبًا، وهو الموت. وبنظري، هذا اختزال لدور الدين، إذا ما قورن بعمق الفلسفة الإسلامية التي تعالج هذا القلق الخبيث تجاه المكانة. ومع ذلك يمكن تفهّم المنطلق الذي يعيش فيه المؤلف الغربي، إذ يعالج القضية من زاوية مسيحية محدودة. يقول عن الموت:
"إن الموت يكشف هشاشة الاهتمام الذي يناله الإنسان بفضل مكانته. فحين يموت، يتحول إلى مجرد رقم في الإحصاءات، أو ثروة يقتسمها الورثة."
ذكر المؤلف قصة معبّرة: في نورفولك عام 1658، حيث كان مزارع يحرث حقله حين اصطدم محراثه بشيء غريب. فإذا به جرة من بين خمسين جرة أخرى، دفن فيها رفات موتى من عصور الرومان أو الأنجلوسكسون. هذا الاكتشاف لم يترك أثرًا كبيرًا في المنطقة، لكنه جعل الناس يتفكرون: هؤلاء الذين كانوا سادة الدنيا في زمانهم، صاروا اليوم مجرد عظام مدفونة لا يذكرها أحد.
هنا تذكرتُ قول ابن الوردي في لاميته المشهورة:
أين نمرود وكنعان ومن ملك الأرض وولّى وعزل؟أين عادٌ وأين فرعون ومن رفع الأهرام من يسمع يخل؟أين من سادوا وسادوا لو نفعْتْهم القلل؟أين أرباب الحجى أهل النهى، أين أهل العلم والقوم الأول؟سيعيد الله كلًا منهم، وسيجزي فاعلًا ما قد فعل.
هذه الأبيات تلخص ما أراد المؤلف قوله: المكانة مهما علت، فهي إلى زوال. وأؤكد أنني كمسلم أرى أن الدين لا يقتصر على تذكير الإنسان بالموت، بل هو أعظم علاج لقلق المكانة، لأنه يحرره من أسر الناس، ويربط قلبه بالله. مكانتك الحقيقية ليست عند البشر، بل عند خالق البشر.
الحل الخامس: البوهيمية
آخر ما أشار إليه المؤلف هو البوهيمية. والمقصود بها حركة ظهرت كردّ فعل على النموذج البرجوازي المتغطرس الذي يقيس قيمة الإنسان بالمال والمكانة. أصحاب الاتجاه البوهيمي حاولوا الثورة على هذه المعايير؛ فاختاروا العيش في الفقر، وفي الضنك، وفي الأماكن المهمشة:
- يعيشون في الخرائب،
- وعلى أسطح المباني،
- وفي أحياء فقيرة،
- بعيدًا عن رفاهية المجتمع.
أرادوا أن يقولوا للناس: يمكن أن تتحرروا من سطوة المكانة المزيفة إذا كسرتم قواعدها كلها. لكن هذا الاتجاه لم يَسْلَم من التطرف، كما هو الحال غالبًا في الغرب. فقد تحوّل عند كثير منهم إلى فوضى ومشاكل أكبر، وصار مجرد ردّة فعل مضادة، لا حلًا متوازنًا.
وكما يحدث اليوم مع تقلّب الناس بين اليمين واليسار: إذا رأوا بلايا اليسار فرّوا إلى أقصى اليمين، وإذا سئموا من اليمين عادوا إلى أقصى اليسار، يتخبطون بلا هدى. كذلك البوهيمية، ما هي إلا رد فعل، لا مشروع إصلاح حقيقي. والصواب هو ما جاء به الإسلام: الوسطية. قال الله تعالى:
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾
فلا غطرسة برجوازية، ولا فوضى بوهيمية، بل توازن قويم.
الخاتمة
كل ما كتبه المؤلف، وكل ما دوّنته في هذه المراجعة، يقود إلى حقيقة واحدة: هذا العالم لن يصلح إلا بالإسلام.
الناس في الغرب يعانون من قلق المكانة وغيرها من الادواء والعلل، ويكتب فلاسفتهم مطولات يحلّلون فيها المشاكل ويشرقون ويغربون، ثم يبحثون عن حلول متخبطة: فلسفة، فن، سياسة، بوهيمية… ومع ذلك لا يجدون علاجًا شافيًا.
وأنا أقرأ هذا الكتاب، كنت مسرورًا جدًا بدقة توصيف المؤلف للمشكلة، خاصة في جزء الأسباب، لكني في الحلول لم أتمالك نفسي من الابتسام والضحك. أين أنتم من مبادئنا؟ كم أنتم محتاجون إليها لتخرجوا من هذه الظلمات! فالطريق واضح لدينا.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا، وأن يبارك لنا، وأن يعيننا على أن نجعل مكانتنا عنده لا عند الناس.
![]() |
| محاولة غلاف بواسطة الذكاء الاصطناعي |


رائع رائع
ردحذفمراجعة مفيدة لموضوع مهم بإضافات جميلة 👏
ردحذفمُبدعك كعادتك شيخنا الحبيب
ردحذف