مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله
قبل أربع سنوات نشر الشيخ أحمد السيد -حفظه الله- سلسلةً علمية بعنوان "التأصيل المنهجي لقضايا المرأة"، وكانت سلسلة لافتة للنظر، أثارت ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي. فقد تعرض الشيخ بسببها لهجوم شديد، ابتدأ أول الأمر بالهمز واللمز والتعريض غير المباشر، ثم ما لبث أن تطور إلى الطعن الصريح في شخصه والتشكيك في منهجه وطرحه. وأمام هذا الجدل المحتدم انقسم الناس فريقين: فريقٌ قدّر الجهد وأثنى على السلسلة ورأى فيها معالجة علمية نافعة، وفريقٌ آخر انتقد وطعن، إما بالاعتراض على مضامينها أو بالتشكيك في نوايا الشيخ.
أما أنا، فكان من فضل الله سبحانه وتعالى عليّ أن رأيت في تلك السلسلة خيراً عظيماً، ومنهجية دقيقة في معالجة قضايا المرأة، تلك القضايا التي ضاع الحق فيها كثيراً بين طرفين نقيضين: طرفٍ مفرِّط يضيّع الحدود الشرعية باسم التحرر والمساواة، وطرفٍ مُفرِط متشدد يضيّق واسع الشريعة ويغلق أبواب الرحمة. وقد دفعني هذا إلى أن أُبدي الحفاوة بالسلسلة، وأن أنشرها في الأوساط المحيطة بي من طلاب علم وقرّاء مهتمين، لما وجدت فيها من بصيرة ومنهجية رصينة.
ومضت الأيام، ولم تزدني إلا يقيناً بأن المرحلة التي نعيشها تحتاج إلى مثل هذا الخطاب الشرعي الواضح والمتوازن، خطابٍ يعيد البوصلة إلى أصلها الشرعي بعيداً عن الانفعال والتقليد الأعمى للتيارات الفكرية الوافدة.
وفي هذه الأيام يطلّ علينا الشيخ أحمد بكتاب جديد صدر في معرض إسطنبول الدولي الأخير، يحمل عنوان: "سبيل المصلحات... استعادة دور المرأة المسلمة". وقد فرغت لتوي من مطالعته، بعد أن كنت أسابق الزمن في قراءته لأشارككم انطباعي عنه مباشرة عقب إنهائه.
ربما يلحظ القارئ أن محتوى الكتاب قريب في خطوطه العامة من محتوى السلسلة السابقة، غير أني وجدت الكتاب أكثر إحكاماً في البناء، وأكثر ترتيباً في الطرح، بل احتوى على بعض المعاني الجديدة التي لم تُذكر في السلسلة. وهذه ميزة بارزة في مشروع الشيخ؛ إذ نلمح عنده سمة التجديد المستمر، والقدرة على الاستجابة لتحديات الواقع، والبعد عن الجمود على صيغة واحدة أو على مفهوم واحد.
فالمشروع الذي يتبناه الشيخ لا يتوسع فقط من حيث الكم، أي في عدد الطلبة والمهتمين والعاملين، بل ينمو كذلك من حيث الكيف، من خلال تعميق الفهم بمنهاج النبوة أولاً، وثانيا بصقله بالتجربة العملية، وبالممارسة الدعوية، والاحتكاك الفكري والمدافعة الواقعية التي تنتج تطويراً وتحسيناً مستمراً.
ولعلي أمر مع القارئ الكريم على أبرز معالم تميز هذا الكتاب:
فالمرأة التي تعرّف نفسها ابتداءً بأنها أمة لله، قبل أن تكون أنثى أو زوجة أو أماً، تكون أقدر على فهم طبيعة وجودها في هذه الحياة، وأوعى بأدوارها المختلفة، وأدق في إدراك ما يُناط بها من أعمال ووظائف. بخلاف المرأة التي تُعرّف نفسها حصراً بالأنوثة، فإنها تضيق على نفسها الأفق، وتقع في أسر مفاهيم وافدة لا تعبر عن حقيقتها الكاملة.
كما أن هذا التعريف العبودي يرسّخ النظر إلى الأحكام الشرعية باعتبارها جزءاً من منظومة تشريعية متكاملة، تقوم على الحقوق والواجبات، وقد خُصَّ الرجل ببعض التكاليف كما خُصَّت المرأة بغيرها. فالمرأة حين تدرك أنها أمة لله، فإنها تنظر إلى كل حكم شرعي على أنه سبيل لتحقيق كمالها الإنساني، وجمع مصالحها الدنيوية والأخروية معاً، دون أن يُحصر التفكير في المصالح الدنيوية وحدها.
وهذا التعريف ليس خاصاً بالمرأة وحدها، بل هو شامل لكل إنسان مسلم: رجلاً كان أو امرأة. فالبطاقة التعريفية الأولى للمسلم أنه عبد لله سبحانه وتعالى، وأن وجوده على هذه الأرض مرهون بتحقيق العبودية ومراتبها، وبالسير في مدارجها التي رسمها الوحي. ومن هنا تنبثق بقية الأدوار وتُبنى بقية التصورات.
فالمرأة داخلة مع الرجل في الخطاب القرآني والنبوي في جميع أبواب العبادات: من الصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وسائر القربات. وهي شريكة كذلك في التكاليف الإصلاحية: من الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة الإسلام، والتضحية في سبيله.
ومع ذلك فقد راعت الشريعة طبيعتها الأنثوية فجعلت لها بعض الاستثناءات التي تناسب بنيتها الجسدية ودورها الأسري، وهذه الاستثناءات ليست انتقاصاً من قدرها، وإنما هي تكريم وحكمة ورحمة، كما هو شأن الشريعة في جميع أحكامها.
بل إن النصوص الشرعية جاءت لتؤكد تكريم الإنسان المسلم رجلاً كان أو امرأة، وبيان حقيقة دوره في الوجود، وأنه مخلوق لغاية عظيمة هي عبادة الله وعمارة الأرض وفق مراده. ومن هنا فإن المرأة لا تُقصى عن أي خير يدخل في "محاسن الإسلام" ومكارمه، بل هي داخلة فيه بتمامه، لها ما للرجل في أصل التكليف، وعليها ما عليه من المسؤولية، إلا ما استثناه الشرع لحكمة بيّنة.
وقد جاء الكتاب في قسمين رئيسيين:
-
القسم الأول: التأسيس المنهجي لقضايا المرأة، وهو في أربعة فصول تناولت المقدمات المنهجية، ومكانة المرأة في الإسلام، ومعالم أدوارها في المجتمع النبوي وما بعده.
-
القسم الثاني: استعادة دور المرأة المسلمة، وهو القسم الذي يعرض الأبعاد العملية والتطبيقية.
ودونكم هديتي إليكم خريطة الكتاب كاملة في صورة واحدة:
ومن أنفع ما يعالج هذه التوترات: إعادة القضايا إلى مواضعها الشرعية الصحيحة، بعيداً عن التهويل أو التهوين. فالكتاب يتحدث بطرح هادئ وعقلاني، يستوعب مختلف الأطراف، وينظر إلى الواقع بجميع أبعاده ومشكلاته، فلا يُضخّم بعض المشكلات على حساب غيرها، ولا يُغفل السياق العام الذي أوجد هذه الإشكالات.
وهذا المنهج المتوازن نافع جداً، بل قد يكون هو المدخل العملي لتجاوز كثير من التحديات التي تحيط بالمرأة المسلمة في زماننا.
-
شمولية الأدوار: حيث تناول الكتاب مختلف أدوار المرأة في الحياة، فهي أم، وبنت، وداعية، ومصلحة، وعاملة في ميادين الإصلاح.
-
شمولية الأطوار العمرية: نظر إلى المرأة في جميع مراحل حياتها؛ صغيرة، وشابة، وكبيرة، في حين أن الخطاب النسوي المعاصر كثيراً ما يهمل المرأة الصغيرة أو الكبيرة، ويجعل قيمة المرأة محصورة في الجمال أو القدرة الإنتاجية فقط.
-
شمولية الإصلاح: انتقل بالخطاب من التأصيل الشرعي إلى ميادين العمل والإصلاح العملي، مع رسم خارطة للتحديات التي تواجه المرأة المسلمة اليوم، وتقديم توصيات لمواجهتها.
أما الكتاب، فيسعى إلى توجيه المرأة لتطلب مراتب عليا: كإحياء الدين في واقعها، ونصرة الإسلام والمسلمين، والدعوة إلى الله، والتربية على معاني الإسلام الكبرى. فهو يربطها برسالتها العظمى، لا بمجرد أدوار محدودة أو نزعات شخصية.
والارتباط العملي بمنهاج النبوة وثمراته يجعل الخطاب أكثر واقعية وأقرب للتطبيق، ويمنح القارئ القدرة على رؤية الصورة مجسّدة في حياة أشخاص حقيقيين. وهذا بدوره يمثل خير معلم يُستمد منه التجديد في معالجة قضايا المرأة، في ظل ما يكتنف هذا الملف من تحديات معاصرة.
-
فمن جهة، يحذّر من النسوية الغالية التي تمجّد المرأة تمجيداً يبالغ في مركزيتها ويجعلها محور الوجود.
-
ومن جهة أخرى، يحذّر من الذكورية الجائرة التي تحتقر المرأة وتهوّن من شأنها وتنتقص من قدرها.
وفي كثير من مواضع الكتاب يذكّر الشيخ بضرورة الحذر من هذين الوحلين: وحل النسوية ووحل الذكورية، ليبقى الخطاب منطلقاً من منهج الإسلام الذي يضع كل جنس في موضعه، ويقرّ كرامته، ويحدد أدواره بميزان العدل والحكمة.
وأحسب أن هذا الوعي الراشد بالواقع ثمرة من ثمار العمل الإصلاحي الذي يقوم به الشيخ، فهو لا يكتب من برج عاجي، وإنما من خلال حركة عملية ومعايشة ميدانية لقضايا الإصلاح، والاحتكاك المباشر بالمشكلات والاستشارات الواردة من الناس. وهذا يمنحه وعياً حقيقياً بما عليه الحال.
وهنا يظهر الفرق الجوهري بين من يكتب منظِّراً مجرداً، وبين من يكتب بعد أن عايش الواقع ورآه عن قرب، ولامس تفاصيله، وتفاعل مع قضاياه.
فوجود مثل هذه النماذج يرفع سقف الطموحات لدى المرأة المسلمة اليوم، ويعطيها صورة واقعية لما يمكن أن تكون عليه في طريق الإصلاح. كما يُسهم في تصحيح الخلل في مفاهيم النجاح السائدة، والتي كثيراً ما تُقاس بالمعايير المادية أو الشكلية، بينما النجاح الحقيقي في المنظور الإسلامي هو في القيام بالرسالة والعبودية، وإحياء الدين ونصرة الحق.
تلك عشرة كاملة، دوّنتها على عَجَل عقب الفراغ المباشر من قراءة الكتاب. وأوصي كل من يمر بهذه المراجعة أن يسعى إلى قراءة الكتاب، ونشره بين الناس، والعمل على إحياء الدور الحقيقي للمرأة المسلمة، فإن إصلاح واقعها سيقود ـ بإذن الله ـ إلى إصلاح شمولي يمتد أثره ليشمل الأمة بأسرها.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجزي شيخنا أحمد السيد خير الجزاء، وأن يبارك في علمه وعمره وعمله، وأن ينفع به حيثما كان.


الله يرضى عنك شيخنا
ردحذفجزاك الله خيراً وثبتك
ردحذفجزاكم الله خير وتقبك منكم
ردحذف