حديث قط

     حدثني بعض الأصدقاء بأنهم دائما ما يربطون بين اسمي وبين الكتب والقراءة، وأعترف بأني أسعد بهذا الارتباط بمورد من موارد العلم والمعرفة، على أن حبي للقراءة ليس حباً لذات القراءة، بل هو حب للوسيلة التي توصل إلى النور وتخرج من الظلمات، فهي وسيلة جيدة ومحببة إلي إذا ما وجهت لخدمة أفكار صحيحة وقيم حسنة، وكذلك الأمر مع كل الوسائل وعلوم الآلة والمواهب الإنسانية. 

    عطفا على هذا الارتباط وبسببه، حرص أحد الأصدقاء على أن يرشح لي زيارة مقهى من مقاهي الكتب الموجودة في باريس. ومقاهي الكتب هي مقاهي تقدم خدمات أي مقهى اعتيادي وبالإضافة إلى ذلك توفر أجواء مناسبة ومريحة للقراءة والدراسة، وغالبا ما تحتوي على مكاتب ورفوف مليئة بالكتب والمجلات والصحف. 

    فعلاً، حملت هذا الترشيح على محمل الجد وذهبت إلى ذلك المقهى. لما دخلت وجدته هادئاً مناسباً للقراءة كما وصف. مصمم بتصميم كلاسيكي قديم، جدرانه مملوءة بالكتب، والجو معبق بما يفتح الشهية للقراءة. اختار لي النادل -الذي قدرت أنه يهودي- طاولة مناسبة لشخص واحد، وضعت أغراضي وجلست وطلبت أي شيء يصرف نظرات النادل المترقبة،  لأبدأ بالقراءة والولوج إلى عالم آخر انفصل فيه عن الواقع.

    رفعت الحقيبة عن الأريكة التي أجلس عليها لأخرج الكتاب، وإذا بي أتفاجئ بقط يجلس خلفها، أعترف أني فزعت للوهلة الأولى من وجوده في هذا المكان! على أنه باغتني وقام بخطوة استباقية قبل أن أقوم بأي ردة فعل أو شِكايةً للنادل؛ فقال: لا تفزع ولا تخف، هذه زاويتي ومكاني المعتاد، أهلاً بك ضيفاً! تمالكت نفسي وتظاهرت بالاعتياد على محادثة القطط! عرفني بنفسه قائلاً بأنه المسؤول عن تصنيف وترتيب الكتب في هذا المقهى، وأنه يعيش هنا منذ نعومة أظافر -أو مخالبه-. كان قد أنهى الكتب الموجودة في هذا المقهى منذ خمس سنوات وشرع في العمل على مشروعه الكتابي، منذ ذلك الوقت.

    يطمح الأستاذ "بسبوس" لكتابة موسوعة حول أحوال مقاهي الكتب في باريس، يحلل معها  أنماط القراءة لدى الناس ويقف على أسباب العزوف عن القراءة والمحركات الدافعة نحوها. حدثني بأن القراءة لا زالت ثقافة رائجة لدى أهالي باريس، إلا أن المقلق في الأمر أن نوعية الكتب المقروءة لدى الناس في تَرَدٍّ وهبوطـ، فبعد أن كان العامي الفرنسي يقرأ في الاجتماع والسياسة والدين والاقتصاد في زمن مضى، صارت عموم قراءات أبناء اليوم لا تجاوز حيز الرواية الفارغة، وفي بعض الأحيان الرواية الرومانسية أو الداعية للشذوذ وقيم الليبرالية الموحشة.

    بالمقابل وبعد ما سمعت منه حديثه المطول عن واقع القراءة في باريس، أحب الأستاذ "بسبوس" أن يسمع مني عن واقع القراءة والقراء في المجتمع الفلسطيني، لاسيما وأنه أخبرني بأن متابع للصراع الفلسطيني الصهيوني ويعي ويدرك ما يدور في تلك البقعة من العالم، كما أكد لي بأنه كقط باريسي متعلم ومثقف كان جده الأكبر قد عاصر  الثورة الفرنسية ورأى الباستيل يهدم حجراً حجراً، ورأى كبار النبلاء الظالمين يعدمون؛ فلا يمكنه إلا أن يقف مع الشعب الفلسطيني المظلوم في دفاعه عن أرضه ومقدساته.

    شكرت له موقفه العادل، وأحترت بما أبدأ بالحديث عنه، فتحدثت بشكل عام عن أن في مجتمعي فئة جيدة من القراء وطلاب المعرفة الحقيقيين، وأشرت إلى أن غزو شبكات التواصل الاجتماعي وتغير الاهتمامات بناء على ما يتابعه الناس في صفحات المشاهيرـ، وصيحات المحتوى الرائج فإن واقع القراءة والقراء قد تراجع، كما أشرت إلى افتقارنا  بشكل عام إلى البيئات المشجعة على القراءة كالأندية القرائية والجلسات النقاشية -الرائجة في مجتمعات أخرى- التي نكون الدعوة فيها عامة، وتتناول كتاباً معينا يدور السجال والحوار فيها عنه، وغيرها من الأنشطة والفعاليات الثقافية التي تساهم في دفع الناس أكثر نحو القراءة. 

    كقط مثقف أكد لي بأن هذا التراجع في واقع القراءة في مجتمعنا، وتدني الذائقة القرائية في مجتمعه لابد أن ينتج عنه شكل من أشكال انعدام الوعي، وضياع البوصلة والتشتت، لاسيما وأن الاستغناء عن الكتب النافعة لم يعقبه الاستعاضة عنها بوسائل معرفية أخرى، بل استبدلت بتفاهات وهموم صناع (الترندات). والعقل وعاء يقبل النافع والفاسد، إلا أن هذا الوعاء اذا استعاض بالفاسد لم يبقى فيه مكانا لغيره من الغذاء النافع. فلما قال هذه الكلمات تذكرت نصاً لشيخ الإسلام ابن تيمية -عليه تلابيب الرحمة- يقول فيه:

"ومن شأن الجسد إذا كان جائعاً فأخذ من طعامٍ حاجته استغنى عن طعام آخر، حتى لا يأكله إن أكل منه إلا بكراهة، وتجشم، وربما ضرَّه أكلُه، أو لم ينتفع به، ولم يكن هو المغذي له الذي يقيم بدنه، فالعبد إذا أخذ من غير الأعمال المشروعة بعض حاجته، قَلَّتْ رغبتُه في المشروع وانتفاعه به، بقدر ما اعتاض من غيره، بخلاف مَن صرف نهمته وهِمَّته إلى المشروع، فإنه تعظيم محبته له ومنفعته به ويتم دينه، ويكمل إسلامه. 

ولذا تجد من أكثر من سماع القصائد لطلب صلاح قلبه تنقص رغبته في سماع القرآن، حتى ربما كرهه، ومن أكثر من السفر إلى زيارات المشاهد ونحوها لا يبقى لحج البيت الحرام في قلبه من المحبة والتعظيم ما يكون في قلب من وسعته السنة، ومن أدمن على أخذ الحكمة والآداب من كلام حكماء فارس والروم، لا يبقى لحكمة الإسلام وآدابه في قلبه ذاك الموقع، ومن أدمن قصص الملوك وسيرهم لا يبقى لقصص الأنبياء وسيرهم في قلبه ذاك الاهتمام، ونظير هذا كثير. ولهذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما ابتدع قوم بدعة إلا نزع الله عنهم من السنة مثلها» رواه الإمام أحمد."

     لما ذكرت هذا النص طار وسر به أيما سرور، وقال أنه يعبر عن الفكرة التي ذكرها بأجود مما عبر، وبأوسع مما رأى، لما رأيت دهشته وانبهاره تذكرت في نفسي كلاماً  للأستاذ ياسر الحزيمي يقول فيه بأنه لم يترك كتابا غربياً في تطوير الذات إلا وقرأه ودرسه واقتناه في مكتبته، ثم بدأ بعد ذلك بالرجوع إلى كتب التراث والأدب والكتب الشرعية، فدخل عليه ابنه في أحد الأيام فسأله عن الاختلاف والفرق الشكلي بين أرفف كتب تطوير الذات الملونة والمزينة، وبين كتب التراث السوداء الجافة، فقال له بما معناه: "والله لما أسودت الرفوف أشرق قلبي". فعرفت قيمة ما بين أيدينا وعظيم ما ورثه لنا السلف من كتب جليلة يجهلها كثير من الناس.  

 خرجت من خيالي وتحليقي وعدت إلى رفيقي وأخبرته بأني ألحظ هذا التدني في الوعي وانعدام الأفق في مجتمعنا، وأني رأيته فعلا على شكلين، الأول يمكن الإشارة إليه بأنه تراجع في الوعي الذاتي، فلا يعرف فيه الفرد أبجديات نفسه وما تريده وما يحتاجه، بل يسير مغمض العينين، ذاهل عن كل ما حوله وما في نفسه، وأعتقد أني تطرقت للحديث عن هذا النوع من الناس في مقال:  أين الوجهة؟ وقد حدثته عما ورد فيه، ثم انتقلت إلى الحديث عن الشكل الثاني وهو تدني الوعي في الواقع، فلا يعرف المرء ما يحدث حوله، ولا يهمه السياق الذي يعيش فيه، ولا ماهية الصراع الذي يدور حوله، بل أكبر همومه وجبة الفطور، فإذا تمت قَلِقَ على وجبة الغداء، فإذا تغدى اهتم واغتم لأجل العشاء - بفتح العين، وليته كان بكسرها، كسر الله الظالمين- ، وبعد العَشاء أعاد الشريط وحمل هم الفطور وهكذا دواليك تسير الحياة.  

    ولا تسألني عن الفرق بين الحياة البهيمية وبين من كان همه مأكل ومشرب ومنام، فلا فرق ظاهر ولا باطن، بل إنني حين أستحضر من كانت هذه حاله؛ فلا يمكنني أن أمنع نفسي من استحضار أبيات إيليا أبو ماضي والتي تعبر عن هذه الحالة الفوضوية، والتي يقول فيها:

"جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ

 وَلَقَد أَبصَرتُ قُدّامي طَريقاً فَمَشَيتُ

 وَسَأَبقى ماشِياً إِن شِئتُ هَذا أَم أَبَيتُ

 كَيفَ جِئتُ كَيفَ أَبصَرتُ طَريقي لَستُ أَدري"

    واسمح لي أيها القارئ الكريم أن استطرد معك هنا بعيداً، إن الوحي العظيم قد عني بتنبيه المسلم على أهمية الوعي بالواقع بشتى أشكاله وصوره: فنبه على أهمية الوعي بسبل الأعداء ومكرهم: ﴿وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين﴾ [الأنعام: ٥٥]. وقد نبه أيضاً على أهمية الوعي الفكري ومعرفة الاتجاهات المؤثرة في الواقع، كتكرار إخبار الله عز وجل للمؤمنين عن أساليب وطرق أهل الكتاب والمشركين في رد الحق ومحاربة الإسلام:﴿ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا﴾ [النساء: ٦٠]. وقد جاء الوحي لينبه أيضاً على الوعي بالواقع السياسي وموازين القوة وسنن الله في الأرض: ﴿غلبت الروم ۝ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون ۝ في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون﴾ [الروم: ٢-٤] ﴿إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين﴾ [آل عمران: ١٤٠]، 

    كما جاءت سنة النبي صلى الله عليه وسلم، تطبيقاً عمليا لهذه المعاني، فكان يأخذ حذره، ويوري أمام أعداءه، ويحتاط أشد الحيطة، حتى أنه صلى الله عليه وسلم يبالغ في حرصه على التفوق المعلوماتي أمام عدوه، وقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم أشد الناس مكراً -اليهود- فتيقظ لخبثهم وكان واعيا بأصولهم ومنهجهم وكيدهم؛ فكانت له الغلبة عليهم. فالمؤمن بطبيعة الحال لا يجب أن يكون غافلاً أو مستغفلاً بل لابد أن يكون كيس فطن، متيقظ "لا يلدغ من جحر واحد مرتين"* كما جاء في الحديث الصحيح الذي يرويه أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه.

    وقد آل التفريط في هذا الباب إلى مآلات لا تحمد، ولم يكن ذلك مقصورا على عوام الناس بغفلتهم عما يدور حولهم وما يطبخ لهم، بل امتد إلى بعض أبناء العلم الشرعي، فهنا داعية مستغفل يُمرر ما تريده جهة معينة، وهنا آخر لا يفرق بين العدو والصديق، وهناك ثالث يدعم باطلاً بلا إدراك أو نظر، ورابع يرى الواقع بنظارة وضعتها جهة معينة أرادت تضليله وتوجيه خطابه، وهلم جر من المشاهد التي يندى لها الجبين. والله المستعان. 

    إلا أن الأمل بالجيل القادم موجود ولن يخيب بإذن الله. فمثلاً مواقع التواصل الاجتماعي أشغلت وألهت البعض نعم، إلا أنها سهلت وصول الصورة الصحيحة للبعض الآخر، ويسرت سبل الوعي بما لم يكن متيسراً لمن هم قبلنا. فالأمل موجود وباقٍ دائما وأبداً بالله سبحانه وتعالى، وكما قال الشاعر عبد الرحمن العشماوي: 

"هَذي حقائقنا وليست صورةً *** وهميةً فيها العقول تنازعُ 

أنا لنْ أملّ من النداءِ فربما *** أجدى نداء من فؤادي نابعُ"

    إلى هنا انتهى نقاشنا وأخبرني رفيقي القط بأن موعد قيلولته قد حان، أصر على  أخذ وعد مني لأزوره مرات أخرى. نام القط، وشرعت بالقراءة. والآن أعتقد أن الوقت قد أزف وإلى هنا يكفي لمقال هذا الشهر، نلقاكم في الشهر القادم بإذن الله تعالى مع قط ناطق مثقف آخر! أو مع عجيبة أخرى من عجائب الدهر. 

الثالث من شهر ذي القعدة من عام 1444هـ 

أورساي - باريس -فرنسا.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب