كيف غيرتنا الحرب؟

 

 قبل البدء، أسعدتني ردود الفعل والتفاعلات على مقال الشهر الماضي، وأسأل الله عز وجل أن ينفع به وأن يكتب لنا القبول، شكر الله لكل من علق وعقب وشارك بمشاعره حول الموضوع.

    أكتب هذه الكلمات وقد مر على بداية الحرب، وعلى العبور الكبير قرابة الثمانين يوماً، وما زال أهلنا في غزة من ارتقاء إلى ارتقاء، ارتقاء في منازل الإيمان ودرجاته، أو ارتقاء إلى رب البريات الرحمن الرحيم، الأرحم بهم منا جميعا والأرحم بهم من أنفسهم ومن بني جلدتهم الذين وقفوا ضدهم.

    بعد هذه الأيام الطويلة الشاقة على من كان له قلب حيٌ ينبض بهموم الأمة؛ يتساءل الإنسان في نفسه: ما الذي غيرته الحرب في نفوسنا؟ أين كانت قلوبنا قبل الحرب وأين صارت بعدها؟ هل ارتقى هذا العضو الصغير بمنازل الإيمان؟ هل ربّت هذه الحرب نفوسنا على معانٍ عالية سامية؟  هل آمنا بزيف شعارات الكثيرين من أهل الإسلام اسماً ومدعي الإنسانية قولاً؟ هل صفت الوقائع وزال الغبش عن العيون ورأينا الحقائق؟

    لابد أن يكون هناك تغير، ومن لم يتغير منا نحو الأفضل بعدما رأى آيات الله تتأول أمام عينيه رأي العين؛ فلِزاما عليه أن يبكي على نفسه، وعلى ما فرط فيها. في هذه الحرب هناك معادلة ذات شقين: شق ترى فيه حجم الإجرام والدمار والظلم والبطش، وشق ترى فيه حجم ثبات الأبطال وصبرهم، وتجلدهم على النائبات، صغارا وكبارا ورجالا ونساء، ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين. 

    هذه المعادلة بشقيها الكبيرين، لهي أكبر حجة علينا نحن المشاهدين، الذين شهدنا وسمعنا ورأينا. لم تأتي هذه الحرب بجديد سوى أنها زادت الأمور وضوحاً، وكأن الله أراد أن يقيم الحجة علينا، حتى إذا تخلف وتخاذل وتآمر أحد؛ فقد أعذر إليه الله وبين له الحق حتى لم تبقى له حجة.

    أتى الدكتور "جميل أكبر"1 في كتاباته على معنى وتشبيه جميل على اسمه، وذلك في سياق رصف معنى وضوح الحق الذي أسلفنا ذكره، فقال أن يوم السابع من تشرين الأول هو بمثابة يوم الزينة.

    ويوم الزينة هذا هو ذلك اليوم الذي جعله نبي الله موسى عليه السلام موعداً بينه وبين طاغية الزمان وفرعون الأرض، ليقيم عليه وعلى قومه الحجة والبرهان، فاختار يوم عيدٍ يتفرغ فيه القوم وتقطع شواغلهم، واختار وقت الضحى حتى يكثر اجتماع الناس إليه، فإذا قامت الحجة آب الناس إلى ربهم وانحازوا إلى صف الحق وحادوا عن طريق الباطل الذين تكشف وجهه وبان.

    فآمن لموسى في ذلك اليوم من آمن، وبقي على كفره من بقى، فلما بزغت شمس الحقيقة،  صار على صاحب الحق أن يكون أكثر ثباتاً، وصار على صاحب الباطل أن يتطرف في فجوره أكثر ليرهب الناس ويحاول استعادة شيء من جبروته الذي اهتز أمام الحق، فقطّع فرعون أيدي السحرة المؤمنين وأرجلهم من خلاف، وصلبهم في جذوع النخل؛ فربح الجنة من ربح وصار إمام النار من صار. ﴿وَجَعَلناهُم أَئِمَّةً يَدعونَ إِلَى النّارِ وَيَومَ القِيامَةِ لا يُنصَرونَ﴾ [القصص: ٤١]

    ويوم والزينة هذا أبعد من أن يكون مجرد حدث صار مع قوم موسى، بل هو سنة خالدة من سنن الله تعالى عز وجل، مع كل طاغية وجبار وفي كل صراع بين الحق والباطل. تذكر معي قصة الغلام والساحر والراهب، تلك الحكاية التي حكاها لنا النبي ﷺ. لم يستطع فيها ذلك الملك الجبار أن يتخلص من الغلام المؤمن إلا بما أملى عليه الغلام فعله من جمع الناس في صعيد واحد، ثم صلبه ورميه بسهم، وبأن يقول حين يرميه: "بسم الله رب هذا الغلام"، وفعلاً قتل الملك الغلام في هذه القصة، ومات بطلها المؤمن، إلا أن النتيجة أتت على غير ما يشتهي ذلك الملك الظالم، فلما رأى الناس هذا؛ آمنوا برب الغلام وآبوا إلى ربهم عز وجل.

    فهرع الطاغية إلى جنوده الطغاة وأمرهم بحفر الأخاديد وإضرام النيران فيها، وقال كلمته التي لا قرار لها: "من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها" ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع في النار، فقال لها الغلام: "يا أمه، اصبري؛ فإنك على الحق".  وحكى الله لنا هذا المشهد في سورة البروج وحكى عن هؤلاء الأبطال الذين خسروا في مقاييس أهل الدنيا مقالة لم يحكيها عن أحد من الناس دونهم: فلم ترد مفردة "الفوز الكبير" في القرآن إلا في قصتهم.

    أما في سيرة الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام، فيوم الزينة فيها كان يوم معركة بدر الكبرى، تلك المعركة التي فرق الله بها بين الحق والباطل، وقد كان النبي  واعياً لأهمية ذلك اليوم ومفصليته في تاريخ الدعوة، ففيها قال: "اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلن تعبد في الأرض أبداً"، وفيها دعا الشقي أبو جهل بقوله: "اللهم انصر أحب الدينين إليك، ديننا العتيق، أم دينهم الحديث!" فأنزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح).

    وهذا التفريق بين الحق والباطل في هذا المشهد هو مفهوم رباني حكاه الله عز وجل في قوله: ﴿وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ وَلِذِي القُربى وَاليَتامى وَالمَساكينِ وَابنِ السَّبيلِ إِن كُنتُم آمَنتُم بِاللَّهِ وَما أَنزَلنا عَلى عَبدِنا يَومَ الفُرقانِ يَومَ التَقَى الجَمعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ﴾ [الأنفال: ٤١]. 

    وأول ظهور أهل الحق مقرون باشتداد البلاء وقد لاقى النبي ﷺ بعد هذا اليوم الكثير من الشدائد اختلفت عن تلك التي قبله، فلاقى من البلاء ما لاقى يوم أحد، وكان مصابه في سبعين من أصحابه ﷺ يوم حادثة بئر معونة ما كان، وحكى الله لنا ما عاشه وأصحابه يوم تحزب الأحزاب عليهم، إذا زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر. وغيرها من الشدائد والمحن النفسية والجسدية.

    ولتلحظ معي في هذه الشواهد الثلاث أن يوم الزينة يعقبه اشتداد التمحيص، ثم يكون النصر بمفهومه القرآني الواسع، لا بمفهوم الدنيا الضيق المحصور في النصر المادي، فالمسلم يؤمن أن نيل الشهادة والفوز بالجنة نصر، وأن الثبات على المبدأ والحق نصر، وأن تنغيص حياة أهل الكفر باستمرار جذوة الحق وبقاء شعلة المقاومة نصر، كما أن كشف المكذبين والمنافقين وتمايز الصفوف نصر، وغيرها من صور النصر التي سطرها الله لنا في كتابه.

    والإسلام قادم وبقوة ولا شك، هذا ما ختم به الشيخ المربي أحمد السيد كتابه بوصلة المصلح، وهذا ما يراه كل مستبصر بالواقع، والأمة -بإذن الله تعالى- في طريقها للوعي، فالنموذج المسيطر وشرطي العالم؛ بدأ يفقد زمام الأمور ولابد أن الأمة الواعية لن تستبدل القيود الأولى بقيودٍ أخرى سواء كانت من موسكو أو بكين أو نيودلهي، وغيرها.

    هذا كله في ميزان الله ثابت ولا ريب فيه لأهل الإيمان، سواء رأيناه بأعيننا الآن أم لم نره، إلا أننا نوقن به يقينا مطلقا لا لَبْسَ فيه. لكن الفيصل والمحك الحقيقي والسؤال الذي لابد لنا أن نسأله لأنفسنا بعد هذا التمايز، في أي الصفوف نحن؟ هل نحن فعلاً من أهل الإيمان الذين نصروا الحق وكانوا في صفه؟ أم نحن من المتخاذلين القاعدين؟ لهذا سألت في مقدمة هذا المقال: كيف غيرتنا الحرب؟

    ولا أقصد هنا ذلك التغيير الذي طرأ على جداولنا اليومية، ذلك التغيير الذي منع أحدهم من نشر كوب قهوته، أو عطله عن رحلته ونزهته الترفيهية، أو سبب لأحدهم ضرر في تجارته وعمله. إلا أني أقصد ذلك التغيير في أعماق نفوسنا وقلوبنا، ذلك التغيير الذي قَلَبَ سحرة فرعون من الكفر ونصرة الباطل والطمع بزخرف الدنيا إلى الإيمان ونصرة الحق، والطمع بمغفرة الخطايا ودخول الجنان.

    لابد أن يكون سؤال التغيير هاجساً يقلقنا؛ لأن السنن تخبر بأن الصراع سيشتد في قادم الأيام، والصبر والثبات وتحمل أعباء الابتلاء لا يكون إلا لمن خالط قلبه بشاشة الإيمان، فيتصبر بالله تعالى ويتوكل عليه، ويقوم في قلبه ما يقوم من الأعمال القلبية فيثبت وينبت. ولربما يكون هذا هو السر خلف ثبات أهلنا هناك، فما نراه اليوم هو ثمرة تهيئة إيمانية قد تكون استغرقت سنوات وسنوات، من القيام ومعايشة القرآن والكثير من الطاعات، والنأي بالنفس عن الآثام. 

    والمتأمل في الواقع يرى أن الكثير من النفوس تغيرت بعد السابع من تشرين الأول، والكثير آب إلى الله تعالى، وقد حدثني أحد الأصدقاء أن أسعد لحظاته بعد الحرب، كانت حين أتى إليه جاره الذي لم يكن يصلي، يسأله عن أحكام الطهارة والصلاة، فالحمد لله كثيراً، وليهنأ ذلك الشاب بفرحة الله بتوبته؛ فالله أفرح بتوبة عبده من ذلك الرجل الذي كان في عمق الصحراء ففقد ناقته وأيقن بهلاكه ثم وجدها. وليهنأ أهل غزة بأجر هذا الشاب وبأجر الكثيرين غيره.

     واعلموا أن هذا التغير ليس على مستوى فلسطين وما حولها فحسب، بل هو على مستوى العالم كله، ومن الناس من كان غارقاً في الدنيا حتى أذنيه، ويعيش في قمة النموذج الرأسمالي الغربي المهمين الملحد، فاستفاق وعاد إلى الله ودخل إلى الإسلام بسبب هذه الحرب، ولعلكم رأيتم أولئك الغربيين الذين استيقظوا في الصباح بعد قيام الحرب واكتشفوا فجأة رسالة أسامة بن لادن إلى أمريكا "Letter to America" واكتشفوا أنه كان محقا! بل وصاروا يدعون الناس إلى قراءتها، ولك أن تتخيل أنها رسالة كتبت في تشرين الأول من عام 2002م، وتأمل في هذا وفيما يجعله الله لعباده من الأثر والكلمة الباقية.

    فما الذي يمنعنا نحن -مسلمة الدار- من أن نعود إلى ديننا حقاً وأن نتمسك به أكثر؟ وأن نجعل ما صار بابا لغرس صالح الأفكار وقلع سيئها، وتربية نشء جديد على معاني الإيمان بالله ورسوله ﷺ. ولتعلموا أن هذا من لب الإعداد الذي أمر الله به عباده حين قال: ﴿وَأَعِدّوا لَهُم مَا استَطَعتُم مِن قُوّةٍ...﴾ [الأنفال: ٦٠] فالإعداد نفسي وعقدي وبدني. لا يكن أحد أسبق منا، شمروا وبادروا في إصلاح أنفسكم ومن حولكم، فهذا ثغرنا وهذا سبيلنا الذي يغيظ الطغاة المجرمين. 

لماذا لا يكون هناك غزة أخرى في كل بيت ودار من ديار الإسلام؟




1

بالمناسبة فالدكتور "جميل أكبر" هو صاحب مشروع "قص الحق"، ذلك الكتاب الرائع لمن ضاق خياله عن الحال التي سيكون عليها هذا الكوكب إذا طبقت فيه الشريعة في القرن الحادي والعشرين. الكتاب يحلق بقارئه بعيداً في جماليات الشريعة والشكل الذي يشع فيه نورها في كل زمان ومكان. الكتاب يستحق نظرة من كل عازم ورامق لهذه الأمة بعين الترقب للوقت الذي ستقف فيه على قدميها في مصاف الأمم القائمة بأمر الله. (د. جميل أكبر | بودكاست #فاصلة_منقوطة)

للعودة إلى المقال -اضغط هنا-

تعليقات

  1. إن شاء الله يكون القادم تنافس في الخير عوض التنافس في الدنيا. أحسنت في إجمال وضع الأمة. استمر في التعبير ككل مرة.

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مراجعة كتاب "طليعة الاستهداء بالقرآن" للشيخ بدر آل مرعي

مراجعة كتاب سبيل المصلحات - الشيخ أحمد السيد حفظه الله

ليل الأسرى بين الغفلة والنسيان

الشيخ خباب الحمد: علمٌ أسير

مراجعة كتاب قلق السعي إلى المكانة – آلان دو بوتون

فوق السماء وتحت النجوم

تدبرات إصلاحية في قصة نبي الله شعيب